معراج الكمال: هل من تائب؟

* * * * * * * * *
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم من له أحسن الأسماء، في الأرض وفي السماء، وله الحمد والشكر والثناء.
فالحمد لله واصلا متّصلا أبدا سرمدا، على عظيم آلائه، والشكر له على ما لا يحصى من وافر عطائه، وما لا يحيط به الفكر من عظيم نعمائه؛ والصلاة والسلام على خير خلقه وخليفته في أرضه وسمائه، والسلام على جميع الممتحَنين بالصدق من خاصته وأوليائه.
وأسأله، تعالى، بمنّه وفضله المزيد من عطاءه، والتسديد إلى ما فيه صلاح حال هذا الفقير وأوليائه، الطامعين دوما في المزيد من فضله وجزيل نعمائه، وأن يتقبّل طاعاتنا ودعاءنا، ويحقق بالزيادة آمال جميع من جلس إلينا وأعارنا السمع من عباده التائقين لحسن لقائه.
فاللهم أعِنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وأَسعَد أيامنا يوم لقائك. آمين، يا رب العالمين.

* * * * * * * * *
كلمة المسامرة الثامنة
التوبة: تسليم الراية إلى العقل
* * * * *

1/ ما هي التوبة؟
يمكن القول أن المؤمن بمجرد أن تتحقق فيه اليقظة وينطلق في عملية التفكر يصبح مستعدا للإقلاع عن مخالفة الباري سبحانه وتعالى، وساعيا إلى إرضائه. هنا نستطيع أن نقول أن العبد قد دخل من باب التوبة. فأول خطوة في السير نحو التوبة هو الكف عن الظلم بجميع أنواعه وأوله ظلم العبد لنفسه. وأعظم الظلم الشرك بالله، ثم تأتي درجات هذا الظلم نزولا إلى أن تصل إلى صغائر الذنوب التي تحجب الدعاء وتمنع الإنسان من نيل التسديد الإلهي. فلنرفع أيدينا، ولنبتهل إلى الله تعالى بهذا المقطع من دعاء الخضر عليه السلام:
فاللهم أغفر لنا الذنوب التي تهتك العصم.
اللهم أغفر لنا الذنوب التي تنزل النقم.
اللهم أغفر لنا الذنوب التي تغير النعم.
الله أغفر لنا الذنوب التي تحبس الدعاء.
الله أغفر لنا الذنوب التي تقطع الرجاء.

* الاستغناء عن صالح المؤمنين ظلم للنفس
لقد تقدّم في المسامرة السابقة أن ظلم النفس مجلبة لفقد النصير المسدد. فالله سبحانه وتعالى قد جعل تولي الرسول والملائكة وصالح المؤمنين مراتب في الاستمداد والنصرة من أجل كسب المعركة مع النفس الأمارة بالسوء. وقد ورد مفهوم "صالح المؤمنين" في القرآن الكريم، حيث عرفه الله سبحانه وتعالى بأنه نصير الرسول بعده سبحانه وتعالى، وجنبا إلى جنب مع جبريل والملائكة. فقد قال تعالى محذرا زوجتي النبي اللتين تظاهرتا عليه: "إِن تَتُوبا إلى الله فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرا عَلَيه فَإِن اللهَ هُوَ مَولَاهُ وَجِبرِيلُ وَصَالِحُ المُؤمِنينَ وَالمَلائِكةُ بَعدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ"[التحريم:4]
فإذا كان سيد الكائنات صلوات الله وسلامه عليه وعلى أوليائه، لا يستغني عن نصرة صالح المؤمنين، فإن من هم دونه من المؤمنين، هم بالتأكيد أحوج منه لذلك. ومن توهم أنه قد استغنى عن الاقتداء بالصالحين والاستمداد مما أودعه الله سبحانه وتعالى فيهم من علمه، فقد ظلم نفسه ظلما عظيما وأعاقها عن السير في طريق التوبة.
فكان الاكتفاء بالشهادتين دون التمسك بولاية الصالحين، إعراضا عن نعمة إلهية، ومن أوّل مصاديق ظلم النفس. فالظلم عنوان جامع قد تشكل بعض المصاديق الاجتماعيّة مظاهر منه، قد تكون شديدة الأهمية. وقد أشار سبحانه وتعالى-في سورة الحجرات- إلى بعض أنواع الظلم ثم عنونها جميعاً عنونة سلبية: عدم ترك المعاصي وجميع أشكال العدوان على الغير، أي عدم التوبة.
وقد صدّر صاحب المنازل باب التوبة بقوله تعالى:
"وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظالِمُونَ"[الحجرات:11]
لقد حرّض الخواجة الأنصاري على التوبة بتصدير باب التوبة بالآية الدالّة على أنّ الظلم منحصر في من لم يتب، فلذلك قال: "فأسقط اسم الظلم عن التائب".
فإن مفهوم الحصر أن ليس بظالم من تاب.

* حقيقة التوبة
قال الخواجة الأنصاري: "والتوبة لا تصحُّ إلا بعد معرفة الذنب".
يقول الشارح القاساني: فإن التوبة هي الرجوع عن مخالفة حكم الحقّ إلى موافقته، فما لم يعرف المكلّف حقيقة الذنب وكون الفعل الصادر عنه مخالفاً لحكم الحقّ، لم يصحّ له الرجوع عنه.
قال الخواجة: "وهي أن تنظر في الذنب إلى ثلاث أشياء: إلى انخلاعك من العصمة حين إتيانها، وفرحك عند الظفر بها، وقعودك على الإصرار عن تداركه مع يقينك بنظر الحقّ إليك".
فسّر معرفة الذنب بالنظر إلى أنه إذا خالف الحقّ كان منخلعاً عن عصمة الله وقت مخالفته، فكان ضالاً عن سواء السبيل، لقوله تعالى:
"وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"[آل عمران:101]
والمعلّق بالشرط عدم عند عدمه، فإذا لم يعتصم فقد ضلّ، ولو اعتصم بالله لعصمه الله، فلم يخالفه، فإذا تبيّن ضلاله بالمخالفة والمعصية رجع إلى الموافقة والطاعة، وإذا علم فرحه عند الظفر بإتيان الذنب وارتكاب المعصية حزن وتدارك أمره بعد التوقف، وإذا أحسّ بالقعود عن تداركه مصراً ومستمراً في الذنب، ندم وجدّ في التدارك وتلافى التقصير السابق، وعزم على ترك المعاودة. ولا يكون ذلك إلا إذا تيقّن بأحد أهمّ صفات الله سبحانه وتعالى: من ورائهم محيط وبكلّ شيء عليم. ومن ذلك يتيقن بنظر الحقّ إليه عند المخالفة، وإلا كان كافراًَ، ولا توبة للكافر.
ظهر إذاً أن مراد الخواجة من معرفة الذنب معرفة لوازمه، وما يوجب صحّة عزمه في الرجوع عنه، وترك العود إليه. ومن الواضح أن حقيقة التوبة عنده هي استعادة الإيمان بعد إهماله وإغفاله تحت أدران المعصية.
فالتوبة ليست إلا تسليم راية قيادة المعركة ضد النفس الأمارة بالسوء إلى العقل. عندئذ فقط يمكن القول بتحقق اليقظة وبدأ المعركة الكبرى: جهاد النفس.

* شروط صحة التوبة

إن شرائط التوبة عند الخواجة الأنصاري ثلاثة أشياء: الندم، والاعتذار، والإقلاع.
شرط الشيء ما يتوقّف عليه وجوده، والتوبة تتوقّف على الندم بالقلب، والاعتذار باللسان بكثرة الاستغفار، والإقلاع بالجوارح، وهو الكفّ عن الذنب حتّى ينخرط فيسلك الرجوع عنه بالكليّة، وإلا لم تصحّ توبته.


* أبعاد التوبة
إن فهم حقيقة التوبة يتطلب عملية تحليلية تبرز أهمّ أبعادها، وقد لخصها الخواجة بقوله: وحقائق التوبة ثلاث أشياء: تعظيم الجناية، واتّهام التوبة، وطلب اعذار الخليقة.
حقيقة الشيء أصله وما يتحقّق به وجوده، فأصل التوبة أن يعظّم التائب جنايته، وإلا لم يندم عليها، والندم شرط التوبة، فلا تتحقّق التوبة بدونه. ومن لم يعظّم الجناية لم يستقبحها، فلا يعزم على الرجوع عنها.
وأما "اتّهام التوبة" فهو أن يعتقد أنه لم يقم بحقّها كما ينبغي، وعسى الله أن لا يقبلها لكونها ناقصة، فيخاف، ويجتهد في تصحيحها والثبات عليها.
والثالث: هو أن يطلب لكلّ من جنى عليه وارتكب ذنباً عذراً، فيعذر الكلّ في الذنب إلا نفسه. فيرى نفسه شرّ الناس منفرداً في الذنوب، فيتضاعف عنده عظم جنايته، إذ لا يرى أحداً من الناس أسوء حالاً منه، فيجتهد في تصحيح توبته والإقلاع بالكلّية عن جنايته.


* * * * *

2/ حول أسرار التوبة

في مرتبة أرقى من التحليل، نستكشف أبعاداً خفية في التوبة لا تتحقق الكمالات المرجوة للإنسان المؤمن إلا بالالتفات إليها، ويعبر عنها الخواجة بهذه الإشارات: وسراير حقيقة التوبة ثلاث أشياء: تمييز التقيّة من العزة ونسيان الجناية، والتوبة من التوبة أبداً، لأن التائب داخل في "الجميع" من قوله تعالى:
"وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعَاً أَيُّهاَ المُؤمِنُونَ".
فأمر التائب بالتوبة.
ويعلق الشارح على هذه الإشارات: يعني إن حقيقة التوبة لها ظواهر وبواطن، فظواهرها كما ذكرت، وبواطنها هي السرائر التي ذكرها.
فأولها تمييز التقيّة، ويقصد بها التقوى، من العزّة، أي الجاه بين الخلق. فإن كثيراً من الناس يتوب ويجتنب المخالفات للرياء والجاه والحشمة بين الناس. فالصورة صورة التقوى والتوبة والحقيقة عزّة النفس وطلب الجاه. فليحترز التائب من ذلك وليخلص النيّة لله تعالى. هذه الحقيقة من أهمّ ما يجب أن يلتفت إليه التائب، فإن الرياء أشد إفساداً في التروك منه في الأفعال أحياناً.
والثانية نسيان الجناية لصفاء الوقت مع الله تعالى بالحضور، فإن ذكر الجفاء في وقت الصفاء جفاء. وهذا لا يتنافى مع ما سبق ذكره من تعظيم الجناية، فهذا مقام آخر يخلص فيه التائب لله باليقين في عظيم مغفرته، ويحسن فيه الظنّ بنفسه في صدق عزمه على ترك الجناية.
والثالثة التوبة من التوبة، فإن الاشتغال بالحقّ والتوجّه إليه بالكلّية والوفاء بعهد الفطرة ينفي تعلّق الخاطر بالغير وذكر الذنب، وذلك يقتضي التوبة من التوبة الموقوفة على معرفة الذنب وذكره، وكلّما ترقّى السالك إلى مقام أعلى ظهر له علّة المقام السافل، فإن التوكّل ينفي النظر إلى فعله وفعل ما سوى الحقّ، والذنب والتوبة منه كلاهما من أفعاله. فالتوبة من التوبة من أسرار التوبة.

* نكتة الاستدلال
وقد استدل الخواجة على هذا المقام بقوله تعالى:
"وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعَاً أَيُّهَا المؤمِنُونَ لَعَلّكُم تُفْلِحُونَ"[النور:31]
فإن التائب من جملة المؤمنين، فدخل في الجميع، فكان مأموراً بالتوبة، ولم يبق له ذنب يتوب عنه، فإنه قد تاب، فوجب عليه أن يتوب من التوبة الموقوفة على ذكر الذنب الذي هو الجفاء، فليتُب عنها ليخلص عن الجفاء وقت الصفاء.
والحقيقة أن كلام الخواجة الأنصاري يحتاج إلى تعليق مختصره أن أمر من تاب بالتوبة ليس بالضرورة قاصدا النحو الذي ذكره. بل يشمل أيضاً المعنى المنازلي للتوبة. وتوضيح مفهوم المعنى المنازلي يعود إلى مفهوم فقهي لا يقر به الخواجة الأنصاري، وهو منازلية التكليف، الذي تقدمت الإشارة إليه، في كلمات سابقة. ومختصر بيانه أن كل منزلة من منازل التكامل الإنساني لها تكليفها الخاص، فما كان جائزاً في منزلة دنيا يصبح غير جائز في منزلة عليا، طبقاً للقاعدة الشهيرة حسنات الأبرار سيئات المقربين.
بناء على هذا التصور المنازلي للتكليف الشرعي، يصبح مجرد السكون وعدم السعي للارتقاء إلى المنزلة العليا، غير جائز في حق من كان من شأنه الجد في طلب الكمال. وكذلك فإن بعض المباحات التي تعيق الإسراع في التكامل، مثل بعض المأكولات. أو الاستسلام للنزوات الجنسية، غير جائزة في حق من كان شأنه الارتقاء وطلب الكمال.
هكذا يكون الأمر بالتوبة، خطاباً لكل الناس على مختلف منازلهم ودرجات كمالهم، فهم جميعاً مأمورون بالتوبة.

3/ سؤال كبير: ما هو السبيل إلى التوبة؟
بعد اتضاح تعريف التوبة وشروط صحتها، يبقى علينا تقرير الإجابة عن السؤال الكبير الذي لا شك أنه يراود الكثير من الأذهان: ما هو السبيل إلى التوبة؟ هل تكفي اليقظة المقترنة بالتفكر لتحقيق التوبة؟
والحقيقة أن الإجابة يمكن تلخيصها في معادلة يكون أحد طرفيها: "تحقق التوبة"، وطرفها الثاني "تحقق المقتضي وانعدام المانع".
أما المقتضي، فهو مجموع ما ذكرناه آنفا. فقد تحدثنا إلى حد الآن عن شروط التوبة وما تصح به وبعض أسرارها، وهذا كله يمثل عناصر المقتضي ولوازمها.
أما المانع الذي يمكن أن يعطل فعل المقتضي، فيمكن أن يكون مستقلا عن كل ما ذكرناه.
والحقيقة أن أهم ما يجب أن يبحث في باب التوبة، هو موانعها. فلا بدّ من تعريف أهم هذه الموانع وتحليلها، ثم البحث عن سُبل تلافيها أو رفعها تماما. ونسأل الله تعالى أن نوفق لذلك في فرصة قادمة.
وما التوفيق إلا بالله. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

والله المستعان وبه التوفيق