أمابعد
ففي جلسة مناجاة مع النفس ومحاسبة لها على تفريطها.. ساءلت نفسي وساءلتني.. كيف تعرفين الله، وتقرين بنعمه عليك ظاهرة وباطنة ثم تبارزينه بالمعاصي في الليل والنهار..؟! وقلت لها: أما تخسين الخسف..؟! أما تخافين العقاب..؟! وقلت لها: ألا تتوقين الى الجنة بحورها وحريرها ونعيمها الذي لا ينفد..؟! ألست تهربين من النار بزمهريرها وأغلالها وعذابها الذي لا ينتهي..؟! ثم قلت لها: اختاري.. فقالت أتمنى يوما أتوب فيه الى الله.. فقلت لها: أنت في الأمنية فاعملي.. قالت: فكيف..؟! صف لي الطريق.. وبيّن لي العقبات.. قل لي.. كيف أتوب..؟!! أخي التائب.. لا بد أن تعلم أن أول الطريق وقفة.. والسير في الطريق عمل.. وزاد الطريق توبة.. واعلم أن الموت يأتي فجأة.. يقول ربنا سبحانه وتعالى:{ قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم* وأنيبوا الى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون* واتّبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون* أن تقول نفس يحسرتي على ما فرّطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين* أو تقول لو أنّ الله هداني لكنت من المتقين* أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرّة فأكون من المحسنين* بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} [الزمر 53-59]. واعلم أخي التائب أنك تطلب السعادة.. وتروم النجاة.. وترجو المغفرة.. يقول ربنا:{ وإني لغفّار لمن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: 82]... فالتوبة ـ أخي التائب ـ هي ملاك أمرك.. هي مبعث حياتك.. هي مناط فلاحك. يقول إبن القيم:: منزل "التوبة" أول المنازل وأوسطها وآخرها.. فلا يفارقه العبد السالك ولا يزال فيه الى الممات.. وإن ارتحل الى منزل آخر ارتحل به واصطحبه معه ونزل به.. فالتوبة هي بداية العبد ونهاية حاجته اليها في النهاية ضرورية.. كما أن حاجته اليها في البداية كذلك.. وقد قال الله تعالى:{ وتوبوا الى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [ النور: 31]. وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الايمان وخيار خلقه أن يتوبوا اليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم. ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبّب بسببه.. وأتي بأداة "لعل" المشعرة بالترجي.. إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم علي رجاء الفلاح.. فلا يرجو الفلاح إلا التائبون.. جعلنا الله منهم.. ولما كانت "التوبة" هي رجوع العبد الى الله.. ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين.. وذلك لا يحصل إلا بهداية الله الى الصراط المستقيم.. ولا تحصل هدايته إلا بإعانته وتوحيده.. فقد انتظمتها سورة الفاتحة أحسن إنتظام.. وتضمنتها أبلغ تضمن فمن أعطى الفاتحة حقها ـ علما وشهودا وحالا ومعرفة علم أنه لا تصح له قراءتها على العبودية إلا بالتوبة النصوح.. فإن الهداية التامة الى الصراط المستقيم لا تكون مع الجهل بالذنوب.. ولا مع الاصرار عليها.. فإن الأول جهل ينافي معرفة الهدى.. والثاني غي ينافي قصده وإرادته.. فلذلك لا تصلح التوبة إلا بعد معرفة الذنب.. والاعتراف به.. وطلب التخلص من سوء عواقبه أولا وآخرا. وها نحن نشرع في بيان ذلك أتم تبيان ـ إن شاء الله . إن الموضوع الذي نطرحه هنا من الأهمية بحيث لا يستغني عنه شاب لا شيخ.. موضوعنا مهم للمبتدئ والمنتهى.. للسالك والواصل للتلميذ والمريد.. إنه موضوع الساعة وكل ساعة...