قصة الصحابة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك
وقفة مع قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وقصتهم مشهورة رواها البخاري في صحيحه عن كعب بن مالك أحد الثلاثة، ولما كانت القصة معروفة لدى الجميع فإنني أحب أن أقف معها وقفات، فأقول: أولاً: هؤلاء الثلاثة مؤمنون صادقون تخلفوا لأسباب من ضعف الإيمان في ذلك الوقت، وبقوا في المدينة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذر من اعتذر من المنافقين، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عذرهم، إلا هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! ما لنا من عذر. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر هؤلاء الثلاثة، فهجرهم المسلمون لا يكلمونهم ولا يسلمون عليهم، وجرى لهم ما جرى، حتى أنزل الله عليهم التوبة، فتاب الله سبحانه وتعالى عليهم، كما قال تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118]. ونحب أن نقف مع قصة هؤلاء الثلاثة عدة وقفات؛ فإننا أحوج ما نكون في هذه الأيام إلى أن نقف هذه الوقفات، فأول هذه الوقفات هي مع أسباب تخلفهم. إن المتأمل لهؤلاء الثلاثة يرى عدة أنواع من الأسباب، أما أولهم -وهومرارة بن الربيع- فإن سبب تخلفه أنه كان له حائط -بستان جميل-، وكان في ذلك الوقت قد أزهر وأينع وأثمر، فصار ينظر إليه ويتردد هل يذهب مع الرسول أو يبقى مع حائطه حتى فاته الغزو. وأما الثاني -وهو هلال بن أمية- فكان له أهل قد تفرقوا، ففي ذلك الوقت اجتمع أهله وجمع من أقاربه في المدينة، فأحب أن يمكث معهم ويأنس بهم، وتردد في الذهاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فاته الغزو. وأما الثالث -وهو: كعب بن مالك- فإن سبب تخلفه هو التردد، فقد كان كل مرة يريد أن يتأهب، ثم يحاول أن يتأهب فما يصنع شيئاً، فيعود مرة ثانية، وهكذا في اليوم الأول والثاني والثالث حتى فاته الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن أحد الصحابة -وهو أبو خيثمة - تداركه الله سبحانه وتعالى برحمته فلم يجعله مع هؤلاء الثلاثة، وإن كانت له قصة مشابهه لقصتهم، فإن أبا خيثمة لما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ذهب إلى بيته، فوجد أن زوجتيه قد صنعت كل واحدة منهما عريشاً ورشته بالماء، وأتت بالطعام الطيب، فلما وقف نظر إلى هذه الزوجة وقد أحسنت في صنعها وهيأت أطايب الظلال والثمار، ونظر إلى الأخرى فإذا بها قد صنعت مثل ذلك، فتوقف، واستيقظ الإيمان في قلبه رضي الله عنه فقال: سبحان الله! رسول الله صلى الله عليه وسلم في الريح وحر القيظ وأبو خيثمة مع زوجتيه في ظل بارد وثمر طيب، والله لا يكون هذا، والله لا دخلت بيت إحداكن إلا وقد هيأت لي ما أتزود به. ولم يدخل بيت واحدة منهما حتى هيأتا له زاده وراحلته، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما زال يسير ويسير حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك في تبوك بين أصحابه، فأقبل رجل من بعيد، فقالوا: يا رسول الله! هذا راكب قد قدم. فقال صلى الله عليه وسلم: (كن أبا خيثمة)، فلما أقبل إذا به أبو خيثمة رضي الله عنه وأرضاه. وقارن بين هذه العزيمة وبين تردد كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وكيف جرى لهذا ما جرى رضي الله عنهم أجمعين. الوقفة الثانية مع قصة الثلاثة هي أن هؤلاء خلفوا، ومعنى أنهم خلفوا: أنهم لم يبين حالهم، كما أخبر كعب بن مالك بذلك، أي أن أولئك المنافقين عذرهم الرسول ووكلهم إلى سرائرهم، لكن هؤلاء الثلاثة خلفوا، ولم يحسم ويقطع في الحكم فيهم إلا بعد خمسين ليلة، حيث أنزل الله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118]، وليس المقصود به: التخلف، كما قد يفهمه بعض الناس من ظاهر الآية. وقد كان في المتخلفين الثلاثة شيخان كبيران، وهما: هلال بن أمية و مرارة بن الربيع، ولهذا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد مرور أربعين ليلة هؤلاء الثلاثة بأن يعتزلوا نساءهم قال كعب بن مالك لامرأته: الحقي بأهلك. وهلال بن أمية قال لامرأته: الحقي بأهلك. لكنه كان شيخاً كبيراً، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! هل تأذن لي أن أخدم هلالاً؛ إنه والله ليس له خادم، وهو شيخ ضائع، فهل تكره -يا رسول الله- أن أخدمه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس، على أن لا يقربك، قالت: وأين هو من ذاك؛ إنه لم يزل يبكي ليلاً ونهاراً). ولهذا فإن هؤلاء الثلاثة الذين امتحنوا هذه المحنة وهجرهم المسلمون جرى لهم من المحنة القاسية ما لا يمكن أن يصفه واصف، فـهلال بن أمية و مرارة بن الربيع اعتزلا المسلمين، وصارا يبكيان ليلاً ونهاراً، أما كعب بن مالك فكان أجلدهم، وكان يأتي يصلي الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.