لكاتب/ الشيخ عدنان الحسيني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آهل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين .....
لا يخفى على المتأمل في سيرة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) كثرة الحث على تربية النفس وتهذيبها بالملكات الفاضلة، والتي تعمل على رفع مستوى الإنسان إلى ملكوت الله عز وجل، وإذا نظرنا إلى سيرة علمائنا الأبرار فإنا نجد التأكيد البليغ في كلامهم على بناء القيم الأخلاقية والدينية حتى يتوجه الانسان التوجه الصحيح في حياته الفردية والاجتماعية.
ولقد أكد علمائنا على عملية تخلية النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل والصفات الإنسانية الراقية، وهذا لا يتم إلا بالمعرفة أولاً، وبالمبادرة إلى الرياضات النفسية ثانياً، لذلك قال (صلى الله وعليه وآله) لسرية حربية: (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس) [1].
جهاد النفس يكون ضد جيش من الأهواء والنزعات والرغبات وسنحاول هنا تسليط الضوء على نوع من هذه الامور إلا وهو النميمة وكفى به فتكاًَ بالدين والمجتمع.
والنميمة من الذنوب القذرة التي دمرت المجتمعات ولا زال هو المرض الخبيث الذي ينخر جسد جميع العلاقات.
فكم من علاقة زوجية ذهبت إدراج الرياح، وكم من صداقة وأخوة أصبحت صريعة هذا السرطان القاتل.
فقد روي عن رسول الله (صلى الله وعليه وآله) أنه قال: (ألا أنبئكم بشراركم ، قالوا : بلى يا رسول الله، قال: المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء المعايب) [2].
وواضح من خلال الرواية المقدسة أن أهل النميمة هم أهل الشر، لأنه قد يرتكب الانسان المعاصي ، بل ولا يكاد يخلو إنسان من معصية ـ إلا من عصم الله ـ ولكن شرار أهل المعاصي هم أهل النميمة.
وقد ذم القرآن الكريم من يقوم بهذا الفعل الشنيع فقال: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ*هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [3].
والهماز: مبالغة من الهمز والمراد به الطعان والعياب.
والمشاء بنميم: النميم معناها السعاية والإفساد، والمشاء به هو نقال الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم[4].
يقول الشيخ الطبرسي (رضوان الله تعالى عليه) فيما يخص الآية : (والهماز الوقاع في الناس بما ليس له ان يعيبهم به ، والأصل فيه الدفع بشدة اعتماد ومنه الهمزة حرف من الحروف المعجمة، فهي نبرة تخرج من الصدر بشدة اعتماد، والنميم : التخريب بين الناس بنقل الكلام الذي يغيظ بعضهم على بعض، والنميم والنميمة بمعنى، ومنه النمام المشموم لأنه بحدة ريحه كالمخبر عن نفسه) [5].
أسبابها:
جعل (جامع السعادات) مبحث النميمة تنبيه في مبحث (طلب العثرات) أي تجسس العيوب والعورات وإظهارها ،ويقول: انها من نتائج العداوة والحسد.
ويقول علماء الأخلاق انها قد لا تكون من عداوة أو حسد بل لأن النمام عنده رداءة في القوة الشهوية فإذا حدث النميمة تكون موجبة للاهتزاز والانبساط[6].
وهناك من الناس من لا يروق لهم ان يروا اثنين متحابين في الله، فيعمل ما بوسعه لكي يسيء ويخرب هذه العلاقة، وإذا أحسّ انه غير مرغوب فيه من قبل طرف من الأطراف يحاول أن يؤذية بشتى الوسائل ويحاول أن يقطع علاقاته مع من يحب.
ومن الأسباب أيضاً، ان بعض الناس يحب ان يتكلم دون وعي ويشعر بلذة في الكلام في المهم من القضايا والأمور، وفي غير المهم، فيكون كثير اللغو، فيسقط من لسانه بعض الأمور التي يكون فيها سموم لا يتنبه إليها.
قد يتكلم صديق على صديقه بدوافع عديدة، منها قد يكون مر بحالة من العتب على زيد، وتكلم بهذا أمام ثالث، وربما يكون قد وقع في سوء ظن في زيد معتقداً أن زيداً ظلمه ثم أيضاً تكلم بذلك أمام آخر، فالدوافع عديدة ومختلفة.
وربما بعد زمن يرجع هذا عن رأيه ويندم، وربما طلب بعد ذلك براءة الذمة من المقول فيه، بل ويصارحه بما صدر منه في حقه، فتسير الأخوة وتبقى العلاقات خصوصاً أن المفروض أن كلاهما مؤمن متدين وملتزم بالشريعة غير مصر على ما قال أو فعل، طبعاً هذا كله إذا كان فعلاً قد قال وكان ظالماً فما بالك ان كان مظلوماً وربما لم يتفوه بذلك.
ومن الأسباب أن من ينقل الكلام يشعر بأنه مظلوم من قبل الذي نقل عنه الكلام، فيحاول أن يوقع به ويدمر علاقاته مع من يحب مستعيناً بالآية (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) وما هذا إلا شرك شيطان وكلمة حق يراد بها باطل، فمن أين اتى بهذا اليقين انه فعلاً قد ظلمه وقال ما قال؟ إذ قد يكون كل هذا وهم وخيال.
وهناك أناس متخصصون في نقل الحديث والأقوال على سبيل (لا إله)، فقد يتكلم شخص في ظرف وسياق خالٍ عن المراد الجدي الذي نقله النمام، كأن يكون في حالة مزاح مثلاً او كلام عابر ليس فيه مفسدة او منقصة، وإذا به يُنقل بشكل عدواني، والنميمة لا تقتصر فقط على نقل الألفاظ او الكلام المقال فعلاً بل يدخل فيها حتى الكلام المخترع.
أي ان النمام أحيانا يخلق من عنده الكلام ويزوقه ثم يقوم بتخريب العلاقات، لذا ورد: أن رجلاً باع عبداً فقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة فقال: رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أياماً، ثم قال لزوجة مولاه: أن زوجك يريد أن يتسرى عليك وانا اسحره لك في شعره، فقالت: كيف أقدر على اخذ شعره؟ فقال: إذا نام فخذي الموسى وأحلقي من قفاه عند نومه شعرات، ثم قال للزوج: ان أمراتك اتخذت خليلاً وتريد أن تقتلك فتناوم لها حتى تعرف، فتناوم فجاءته المرأة بالموسى فظن أنها تقتله فقام وقتلها، فجاء اهلها وقتلوا الزوج، فوقع القتال بين القبيلتين وطال الأمر بنيهم[7].
دخول النميمة في أبواب اخرى:
وقد تدخل النميمة في باب هتك الستر وافشاءه، لأن هذا المؤمن الذي شعر بالأمان بصاحبه ونقل له ما يشعر به من أمر ، ويشتكي وهو واثق به وإذا بذلك الصاحب يفشي هذا السر ويهتك الستر ويطعن الأمان.
روى عنه (صلى الله وعليه وآله): (إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي إمانة) [8].
وروى عنه(صلى الله وعليه وآله): (الحديث بينكم أمانة) [9].
وقد تدخل النميمة في باب مضايقة المؤمن وإدخال الكرب على قلبه.
فالمؤمن يخاف على شخصيته وسمعته من ان تصاب بالخلل في المجتمع، وهذا ما يدعونه بـ (القتل المعنوي)، لأنه بذلك يكون عند أخيه رجل مغتاب لا يرعى ذمة اخوانه وأنه غير مؤهل للأخوة وكل إنسان بشكل عام يحاول دائماً أن يحافظ على شخصيته وسمعته بين الناس وفي المجتمع.
يقول الإمام السجاد عليه السلام: (اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، وقال ان هذه الذنوب كما يلي: شرب الخمر ـ اللعب بالقمار ـ تعاطي ما يضحك الناس ـ ذكر عيوب الناس ـ مجالسة أهل الريب)[10].
أن ذكر عيوب الناس هو مورد بحثنا وهو كما ترى بشكل عامل من عوامل هتك العصم.
وجاء عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): (ان من أكبر السحر النميمة، يفرق بها بين المتحابين، ويجلب العداوة على المتصافيين، ويسفك بها الدماء، ويهدم بها الدور، ويكشف بها المستور، والنمام أشر من وطيء على الأرض بقدم)[11].
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين