لطريقة جدلية: هل العلاقة بين الدال و المدلول علاقة ضرورية أم إعتباطية؟
الأستاذ:حا ج عزام "3لغات"
المقدمة:"تمهيد+ذكر العناد+طرح الإشكال
لكل
واحد منا جملة من الأفكار والتصورات والمشاعر في ذاته،وهو في حاجة إلى
التعبير عنها بغية التكيف مع المواقف التي يواجهها، وهذا التعبير لا يتم
إلا في شكل لغة ،والشائع أننا غالبا ما نستعمل لغة الألفاظ والكلمات ،لكن
ما حرك الدراسات في مجال علم اللغة هو طبيعة العلاقة بين اللفظ ومعناه وهنا
كان الإختلاف الكبير بين الفلاسفة، إذ ذهب البعض إلى القول أن العلاقة بين
الدال و المدلول علاقة طبيعية ضرورية،بينما يؤكد أنصار نظرية التواضع و
الاصطلاح أن الأسماء الواردة في الكلام الإنساني تم الاتفاق عليها وهي
بمعنى آخر إعتباطية،إذن فالإشكال الذي نطرحه:هل العلاقة بين اللفظ ومعناه
هي رابطة ضرورية منبعها محاكاة الطبيعة ؟ أم أنها اصطلاحية توافقية ؟
التحليل:
الموقف الأول: "العلاقة ضرورية"
العلاقة
بين الدال و المدلول علاقة ضرورية ،فيكفي أن نسمع الكلمة حتى نعرف معناها
ويمثل هذا الإتجاه المدرسة اللسانية القديمة بداية مع الفيلسوف اليوناني
أفلاطون و عالم اللسانيات الفرنسي إيميل بنفيست.
يؤكد أفلاطون خصوصا
في "محاورة كراطيل" أن العلاقة بين الدال و المدلول هي علاقة ضرورية أي
أن اللفظ يطابق ما يدل عليه في العالم الخارجي و أساس هذا الرأي نظرية
محاكاة الإنسان لأصوات الطبيعة،وبهذا فإن العلاقة بين اللفظ ومعناه ضرورية
تحاكي فيها الكلمات أصوات الطبيعة،فبمجرد سماع الكلمة نعرف معناها
ودلالتها،فكلمة زقزقة مثلا تشير بالضرورة إلى صوت العصفور،وكلمة مواء تشير
بالضرورة إلى صوت القطط،ونفس الشأن مع كلمات أخرى كـ::نهيق....، نباح....،
خرير....، ...الخ.
وهذا ما يذهب إليه عالم اللسانيات الفرنسي إيميل
نفيست حيث يرى في كتابه ( مشاكل اللسانيات العامة)ان علاقة الدال بالمدلول
ضروريـــــــة و ذاتيـــــــــــة الى درجة انه يستحيل الفصل بينهما يقول
:" الدال و المدلول ، الصورة الصوتية و التمثل الذهني هما في الواقع وجهان
لأمر واحد و يتشكلان معا كالمحتوي و المحتوى"
ان العلامة اللسانية
بنية موحدة يتحد فيها الدال بالمدلول ، بدون هذا الاتحاد تفقد العلامة
اللسانية هذه الخاصية ، كل كلمة تدل على معنى ، وتستحضر صورتها في الذهن ، و
كلما كررنا نفس الكلمة ظهرت نفس الصورة مثل لفظ ( ثور) الذي يستحضر في
الذهن صورة هذا الحيوان العشبي ،و لا يستحضر صورة حيوان آخر، إذ أصبح اللفظ
يطابق ذات الشيئ في العالم الخارجي
عندما نقول مسطرة فلأنها تسطر ، و
محفظة أنها تحفظ الأدوات ، سيالة لانها تترك سائلا ، و كذلك بالنسبة للفظ
مثلث فلأنه يتكون من ثلاثة أضلاع ، و مربع لأنه يتكون من أربعة أضلاع و
دائرة لأنها دائرية ....، فكل لفظ يعكس طبيعة الشيئ و يعبر عن هويته و لم
يوضع بطريقة عشوائية ،و لهذا يقول:" إن العلاقة بين الدال و المدلول ليست
إعتباطية بل هي على العكس من ذلك علاقة ضرورية".
و يؤكد بنفيست على
العلاقة الضرورية بين الدال و المدلول وذلك لأنه عندما يستقبل الذهن كلمة
مجهولة يرفضها باعتبارها غريبة لا تحدث أي تصور و لا توحي باي معنى يقول: "
ان الذهن لا يحتوي على أشكال خاوية"
و لو كانت العلاقة بينهما
اعتباطية لاستحدث كل فرد لغة خاصة يتحدث بها لكن الأمر لا يجري على هذا
النحو ، الكل يضطر الى التحدث بلغة القوم ، و استعمال نفس الإشارات الصوتية
حتى يتم التواصل بينهم.
إضافة إلى هذا يؤكد بعض علماء اللغة أن بعض
الحروف لها معان خاصة حيث يوحي إيقاع الصوت وجرس الكلمة بمعنى خاص،فحرف(ح)
مثلا يدل على معاني الانبساط والراحة، مثال:حب،حنان،حنين ، حياة.....،
وحرف(غ) مثلا فيدل على معاني الظلمة والحزن والاختفاء، كما في :غيم، غم،
غدر، غبن، غرق، غاص.....
النقد:
لقد بالغ أنصار المدرسة اللسانية
القديمة في قولهم بالعلاقة الضرورية بين الدال و المدول ذلك لأنه لو كانت
اللغة محاكاة للطبيعة فكيف نفسر تعدد اللغات ما دمنا نعيش في طبيعة
واحدة"عربية،فرنسية،إسبانية،...." . و كيف نفسر تعدد المعاني لنفس اللفظ
مثل لفظ مغرب ، فقد يعني وقت الصلاة من جهة ، و بلد عربي من جهة ثانية ،
لفظ عادل فهو صفة الإنصاف من جهة و اسم علم من جهة ثانية.
الموقف الثاني:"العلاقة إعتباطية"
العلاقة
بين الدال و المدلول علاقة إعتباطية،فالكلمة لا معنى لها حتى يتواضع الناس
على معناها و يمثل هذا الإتجاه المدرسة اللسانية الحديثة عالم اللسانيات
السويسري فردنان دوسيسير، و الفيلسوف أرنست كاسير، و الفيلسوف جون بياجي.
حيث
يرى عالم اللسانيات السويسري فردنان دوسوسير بأن العلاقة بين الدال
بالمدلول علاقة اعتباطية و تحكمية ، بمعنى ان الإنسان هو الذي يسمي
الأشياء كما يشاء دون أن تكون لهذه الأسماء علاقة ضرورية و ذاتية بتلك
الاشياء ، فما سمي قمرا على سبيل المثال كان من الممكن أن يسمى شمسا فنحن
نسميه كذلك بحكم العادة لا غير .
و الحجة هي ان الإشارات الصوتية التي
يتكون منها لفظ قمر (ق- م- ر) يمكن ان نجدها في ألفاظ أخرى مثل رمق ( ر-
م-ق) و بالتالي لا تعبر هذه الإشارات عن هوية الأشياء فلا شيئ يجمع القمر
بالرمق
و يعطي دوسوسيـــــر مثالا عن لفظ (أخت ) فلا نجد أي صلة بين
سلسلة الأصوات "أ،خ،ت" والصورة التي تحصل في الذهن إذ بإمكاننا استبدالها
بإشارات صوتية أخرى دون ان تتغير الصورة كأن نقول
(Sister) و بالانجليزيـة بالفرنسية(sœur )
إضافة إلى هذا فالمعنى الواحد يمكن أن نعبر عنه بألفاظ مختلفة مثل البحر
هو اليم ، و السيف هو الحسام ، والقط هو الهر، و الأسد هو الغضنفر و
الضرغام و الليث ، و ملك الغابة ..الخ أو كأن نقول: الفعل ضرب: ضرب
الأستاذ مثالا: "أي أنه أعطى مثالا"،و ضرب الرجل في أقطار الوطن،"أي أنه
تجول في البلاد"، وضرب الأخ أخته "أي أنه عاقبها بالضرب"، و ضرب البدوي
الخيمة،"أي أنه بسط وووضع الخيمة" ، وعليه نجد اللفظ الواحد لخ عدة معان
مختلفة
و فلو كانت الأشياء هي التي تفرض الاسم بحكم طبيعتها لكانت لغة
البشر واحدة ، و لما تعدد ت .فاللسان العربي غير اللسان الفرنسي و غير
اللسان الألماني.
وهذا ما يؤكده أرنست كاسير هذا بقوله:" إن الأسماء
الواردة في الكلام الإنساني لم توضع لتشير إلى أشياء بذاتها" ،هذا القول
يدل على أن الألفاظ وضعت لتدل على معان مجردة وأفكار لا يمكن قراءتها في
الواقع المادي، بل إن الكلمة، أو الرمز، أو الإشارة لا تحمل في ذاتها أي
معنى أو مضمون إلا إذا اتفق عليه أفراد المجتمع،فالإنسان هو من وضع الألفاظ
قصد التعبير والتواصل.
وهذا ما يذهب إليه الفيلسوف بياجي ذلك أن
العلاقة بين الدال و المدلول علاقة إعتباطية عفوية و اللفظ لا معنى له إلا
إذا تم الإتفاق حول يقول:" إن تعدد اللغات نفسه يؤكد بديهيا الميزة
الإصطلاحية للإشارة اللفظية".
النقد :
لو كانت علاقة الدال بالمدلول
غير ضرورية فكيف نفسر الألفاظ التي تعبر عن طبيعة الأشياء مثل مواء القط ،
نقيق الضفدع ، هديل الحمام و أيضا خرير المياه ، هدير البحر ، و غيرها ، و
كيف نفسر استخدام الألسنة لنفس الألفاظ تكنولوجيا ، بيولوجيا ، سيكولوجيا
أو ديمقراطية ، ديكتاتورية ، ليبرالية
التركيب:"توفيقي"
وكتوفيق بين
الأطروحتين ،مادام الإنسان يحيا في وسط مادي ومعنوي،معنى هذا أن الألفاظ
منها ما هو محاكاة للطبيعة ،ومنها ما كان توافقا واصطلاحا بين بني البشر
،فلا يمكن إنكار الموقفين لأننا في الكثير من الأحيان نعي الكلمات بمجرد
سماعها وعليه فهي مستوحاة من الطبيعة ، إلا أن هذا لا يرفض التواضع الذي
إتفق حوله البشر منذ الأزل و إعطائهم لمعاني لكل لفظ حتى تسهل عملية
التواصل بينهم.
وحسب رأيي الشخصي فإن العلاقة بين الدال و المدلول تبقى
ضرورية و عفوية في الوقت نفسه،فالمتأمل في العديد من الألفاظ و المصطلحات
يرى أنه بإمكانه فهمها مباشرة دون تفكير أو إمعان كقولنا زقزقة فالذهن يعرف
معنى هذه الكلمة مباشرة دون تمعن أو تفكير ،فيكمل مباشرة زقزقة
العصافير،وعفوية ذلك أن المصطلح الواحد نعبر عنه بعدة لغات بل وبعدة
لهجات،فلو طلب منا مثلا حساب عدد اللغات و اللهجات التي توجد في العالم
لوجدنا أنها كثيرة و لا تحصى و عليه فاللألفاظ منها ماهو مستوحى من
الطبيعة و منها ما هو متواضع عليه من طرف البشر.
الخاتمة:
وعصارة
القول أن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة ضرورية و اعتباطية،ضرورية لأنه
فعلا هناك من الألفاظ ما هو محاكاة و مطابقة تامة لما هو في الطبيعة،و
اعتباطية لأن الدراسات في مجال علم اللغة تؤكد أن الطبيعة عاجزة أن تستوعب
كل الألفاظ لذا كان التوافق والاصطلاح ، وتبقى اللغة من المسائل الهامة
التي أسالت حبر المفكرين و الفلاسفة،وقد توافينا الدراسات مستقبلا بما هو
جديد.
الطريقة جدلية:هل المنطق الصوري يعصم الفكر من الوقوع في الخطأ؟
المقدمة:
إن
المنطق قديم قدم الإنسان نفسه ،فالإنسان منذ أن وجد وهو يفكر و يستدل و
يبحث دون معرفة قواعد المنطق،إلى أن جاء الفيلسوف اليوناني أرسطو و هذب
قوانينه و أرسى قواعده وجعله علما يعصم الفكر من الوقوع في الخطأ،ولقد كان
هناك إختلاف بين الفلاسفة حول أهمية المنطق وحول كونه كافيا لتوافق جميع
العقول،فمنهم من يؤكد أن قواعد المنطق كافية لضمان العقل حتى لا يقع في
الخطأ ، و البعض الآخر يعتبر أن قواعد المنطق ناقصة و لايمكن أن تضمن للعقل
ذلك ،فهل هذه القوانين كافية لتوافق جميع العقول حتى لا تقع في الخطأ؟
التحليل:
الموقف الأول:أنصار المنطق الصوري
يذهب
أنصار الموقف الأول إلى القول بأن قواعد المنطق الصوري كافية لتوافق جميع
العقول ونجد منهم "أرسطو، الفرابي،أبوحامد الغزالي،إبن
سينا،بوانكاريه،لايبنز"
حيث يذهب المعلم الأول أرسطو إلى المنطق
الصوري هو مجموعة من القواعد تؤمن الفكر من الوقوع في الخطأ وهو يطرح
مطابقة الفكر مع نفسه من حيث دراسة الأفكار وفقا لمبادئ العقل (الهوية,عدم
التناقض,الثالث المرفوع,السببية)ومنه يدرك العقل أي تناقض يقع فيه.
بالإضافة إلى أن القياس هو العملية المنطقية الوحيدة المحققة لليقين الذي
هو الكمال المنشود من الناحية المنطقية.
و هو مانجده في العصور
الوسطى خصوصا عند كبار الفلاسفة المسلمين الذين يؤكدون على أن المنطق
الصوري هو أصدق معيار يمكن الاستعانة به لدراسة العلوم،وأداة يجب تحصيلها
قبل البدء في أي نوع من البحوث فسموه بعلم المنطق تارة و بعلم الميزان تارة
أخرى،فعرفه ابن سينا في كتاب "النجاة":" هو الآلة العاصمة للذهن عن
الخطأ"،وأعتبره الفرابي "رئيس العلوم" حيث يقول:" فصناعة المنطق تعطي
بالجملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل و تسدد الإنسان نحو طريق
الصواب"،وقد ذهب بعض الأصوليين الى أن تعلم المنطق فرض كفاية على المسلمين
و هذا ماعبر عنه أبو حامد الغزالي الذي قال:" إن من لا يحيط بالمنطق فلا
ثقة بعلومه أصلا".
وهذا ما يذهب إليه العديد من الفلاسفة المحدثين
على غرار الفيلسوف الفرنسي هنري بوانكاريه الذي يرى أنه لا يمكن إضافة أي
شيء لما كتبه أرسطو في مجال المنطق لأنه كامل و مكتمل من الجوانب "مبحث
التصورات،مبحث القضايا،مبحث الأحكام"، والرأي نفسه نجده عند الفيلسوف لا
يبنز الذي يرى المنطق يحتوي على مباديء تعتبر قوانين تنظم و تحكم أفعال
العقل الإنساني و توجه معارفه وهذا مانجده في قواعد التعريف المنطقي، و في
أنواع الإستدلال، و شروط القياس، ومباديء العقل حيث يقول:"إنها ضرورية
للتفكير كضرورة العضلات و الأوتار العصبية للمشي".
ومن هنا اعتبر المنطق الصوري أسمى أسلوب لضمان إتفاق العقول و انسجامها و توحيد حمكها ذلك أن العقل هو أعدل قسمة بين الناس.
النقد:
لقد بالغ أصحاب الموقف الأول في دفاعهم عن المنطق الأرسطي ،ذلك أنه
وبالرغم من الأهمية الكبيرة للمنطق الصوري الذي كان و لايزال الاساس الأول
للكثير من العلوم إلا أنه يبقى ناقصا ذلك أنه إجتهاد بشري يعتريه النقص و
لا يرقى إلى الكمال مهما كان فيه من مجال الإبداع، و غير كاف خصوصا مع
التطور الكبير الذي مس شتى مجالات العلوم.
الموقف الثاني: خصوم المنطق الصوري:
يذهب أنصار الموقف الثاني إلى القول بأن التحصن بقواعد المنطق و التعرف
على آلياته و صوره المختلفة لا تعني بالضرورة العصمة من الخطأ و توافق جميع
العقول ومن بين هؤلاء نجد العديد من المفكرين و الفلاسفة من بينهم ابن
صلاح الشهرزوري، ابن تيمية،ديكارت،غوبلو.
وهذا ما يذهب إليه المفكر
الإسلامي إبن صلاح الشهرزوري الذي يقول " فأبو بكر و عمر و فلان وصلوا الى
الغاية من اليقين و لم يكن أحد منهم يعرف المنطق" فحرم الاشتغال بالفلسفة و
المنطق تعليما و تعلما حيث قال أيضا:" الفسفة شر، والمنطق مدخل الفلسفة، و
مدخل الشر شر" وكان هناك قول شائع بين العرب و المسلمين "من تمنطق تزندق"،
و الرأي نفسه عند شيخ الاسلام ابن تيمية الذي يرى بأن المنطق الصوري
الأرسطي لا فائدة منه ولا قيمة ترجى من دراسته لأنه مجرد آلة عقيمة يقيد
الفكر بقواعده الكثيرة المملة حيث يقول:"إنه منطق متعلق بتربة اليونان".
وهذا ما يذهب إليه بعض فلاسفة العصر الحديث بداية من الفيلسوف الفرنسي
رونيه ديكارت الذي يرى المنطق الصوري منطق شكلي يدرس التفكير دون البحث في
طبيعة الموضوعات التي ينصب عليها بحسب الواقع،ضف إلى ذلك أن قواعده ثابتة
لا تقبل التطور مهما كانت المضامين و أنه منطق عقيم لا يصل إلى نتائج جديدة
فهو مجرد تحصيل حاصل يقول ديكارت: إن اليقين الأرسطي يقين أجوف"، و الرأي
نفسه عن الفيسلوف غوبلو الذي يرى أن المنطق الصوري منطق عقيم يعتمد على لغة
الألفاظ التي تؤدي إلى المغالطات مثلا:
الهروب من المعركة جبن
الجبن من مشتقات الحليب
الهروب من مشتقات الحليب.
وعليه
فالمنطق الصوري يصلح للمناقشة و الجدل ،لا معيار للحقيقة و اليقين و لا
يساير و اقع الأحداث المتغيرة مثلا نجد في مجال الفيزياء عند التحدث عن
طبيعة الضوء أو حركة الإلكترون نجد أن مباديء العقل "كمبدأ الهوية، مبدأ
عدم التناقض، مبدأ الثالث المرفوع"أصبحت مباديء غير صالحة مما أدت الحاجة
الى ابداع صور و اساليب منطقية جديدة تتناسب و ظروف العلم في العصر الحديث
كالمنطق الرياضي، المنطق المتعدد القيم،المنطق الجدلي.
النقد:
لقد
بالغ خصوم المنطق الصوري في نقدهم الكبير لمنطق أرسطو متناسين و متجاهلين
الفضل الكبير لهذا الأخير في إرساء معالم علم جديد ساهم بقسط كبير في تطور
العلوم و مناهج البحث العلمي، وعليه و رغم سلبيات المنطق إلا أن له فائدة
كبيرة في إبعاد الفكر من الخطأ وتعليمه مبدأ الاستنتاج واستعمال الحدود
بكيفية سليمة فلا يمكن أن ننكر هذا المجهود الفكري.
التركيب:
إن
العقل الأنساني يملك القدرة على الانتقال من المعلوم الى المجهول و الناس
في محادثتهم اليومية و في مناقشاتهم يسيرون على مقتضى المنطق فهو الاسلوب
الذي يساعدنا على تصحيح تفكيرنا وهو أداة التفكير الصحيح لكنه ناقص و بحاجة
الى الدراسات الحديثة.
وحسب رأيي الشخصي فإن المنطق الصوري ضروري في
عملية التفكير و لا يمكن الإستغناء عنه لأننا وبمراعتنا لقواعده نعصم
أنفسنا من الوقوع في الخطأ إلا أنه غير كاف خصوصا مع التطور الكبير الذي مس
مجالات العلم الحديث و هذا ما أدى إلى ضرورة اللجوء إلى أنواع أخرى من
المنطق حتى تسدد النقص و العيوب التي تكتسي المنطق الصوري.
الخاتمة:
في
الأخير و من خلال ما سبق نستنتج أن المنطق الصوري هو أداة ضرورية لعملية
التفكير و لايمكن الاستغناء عنه ،لكن هذا لا يعني بالضرورة وجود النقص
فيه،لهذا فهو دائما بحاجة الى إبداعات منطقية جديدة كي تساير العصر و تساهم
في تطور العلوم.
مقالة جدلية: ماهو أصل المفاهيم الرياضية "العقل أم التجربة"
المقدمة:
تعد
الرياضيات أولى العوم استقلالية عن الفكر الفلسفي حيث أسست لنفسها منهجا
خاصا قائما على الاستنباط و موضوعا مستقلا ينبني على دراسة الكم المجرد في
الأشياء والكون وقد فصلت الرياضيات الكلاسيكية بين صنفين كم منفصل يدرس
الحساب وكم متصل موضوعه الهندسة وقد كان هذا موضع توافق بين كل الرياضيين
والفلاسفة لكن ما لم يتفقوا حوله هو الأصل البعيد والأول لتكون مفاهيم
اللغة الرياضية حيث اعتقد البعض انه العقل الفطري المستقل تماما عن التجربة
والعالم الحسي في حين على عكس هذا خالفهم البعض فحكم بالأصل الحسي
التجريبي لكل المفاهيم الرياضية وهو ما خلق جدل وتنافر بين الموقفين
والإشكال الذي يطرح نفسه: هل المفاهيم الرياضية مفاهيم عقلية فطرية أم انها
حسية مكتسبة؟أو بمعنى آخر ما هو أصل المفاهيم الرياضية العقل أو التجربة؟.
الموقف الأول: المذهب العقلي.
يرى كل فلاسفة المذهب العقلي دون استثناء أن أصل المفاهيم الرياضية هو
العقل الخالص المحض أي المستقل تماما عن العالم الواقعي الحسي والمعارف
النابعة منه بالحواس والعقل في ذلك يستند إلى أسس ومبادئ ذاتية وفطرية فيه
ومن بين أشهر ممثلي هذا الطرح نجد الفيلسوف اليوناني أفلاطون والفرنسي
ديكارت والألماني كانط وغيرهم.
حيث نجد أن الفيلسوف اليوناني أفلاطون
يرى بأن المفاهيم الرياضية كالخط المستقيم والدائرة .واللانهائي والأكبر
والأصغر ...الخ،هي مفاهيم أولية نابعة من العقل وموجودة فيه قبليا لان
العقل بحسبه كان يحيا في عالم المثل وكان على علم بسائر الحقائق .ومنها
المعطيات الرياضية التي هي أزلية وثابتة , لكنه لما فارق هذا العالم نسي
أفكاره ,وكان عليه أن يتذكرها .وان يدركها بالذهن وحده حيث يقول في كتابه
الجمهورية << عالم المثل مبدأ كل موجود ومعقول وأن المعرفة تذكر
>> وعليه استند أفلاطون في تأسيس رؤيته إلى نظريته في المعرفة
والوجود حيث اعتقد مسبقا أن المفاهيم الرياضية في خصائصها ثابتة وأزلية
ومطلقة ومن هذا يحكم بانتفائها في العالم الحسي لأنه فاني ونسبي ومتغير على
الدوام وبهذا فهي في أصلها موجودة في عالم المثل منذ الأزل وحقائق هذا
العالم مطلقة وثابتة وأزلية ومثال ذلك أننا عندما نقول خمسة أقلام ،فنحن
نرى الأقلام فقط و لكن لانرى العدد 05 فهو مفهوم عقلي بحت.
والرأي
نفسه نجد عند الفيلسوف الفرنسي وأب الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت الذي يرى
أن المعاني الرياضية من أشكال وأعداد هي أفكار فطرية أودعها الله فينا منذ
البداية وما يلقيه الله فينا من أفكار لا يعتريه الخطأ ولما كان العقل هو
اعدل قسمة بين الناس فإنهم يشتركون جميعا في العمليات العقلية حيث يقيمون
عليه استنتاجاتهم حيث يقول في كتابه التأملات " المعاني الرياضية أفكار
فطرية أودعها الله فينا منذ البداية". وينطلق ديكارت أيضا من أن البداهة
صفة مميزة للمفاهيم الرياضية الثابتة لكن الحواس تخطأ وتخدع كرؤية العصا
منكسرة في الماء وحقيقتها غير ذلك ولما كانت متغيرة فلا يمكنها أن تدرك ما
هو ثابت لان النسبي لا يدرك المطلق وبما أن أفكار الإله صادقة صدقا مطلقا
فإن تلك المفاهيم تكون صادقة وبديهية وهما صفتان ملازمتان للحقائق
والمفاهيم الرياضية لهذا فلا يمكن أن تكون موجودة في عالم الحواس لأنه
متغير بينما تلك المفاهيم دقيقة ومنه فالعقل لم يفتقر في البداية إلى
مشاهدة العالم الخارجي حتى يتمكن من تصور مفاهيم الرياضيات بل هي موجودة
فيه فطريا وقبليا.
وهذا مايذهب إليه زعيم الفلسفة النقدية إمنوال
كانط حيث يرى أن الزمان والمكان مفهومان مجردان فطريان و قبليان وليس
مشتقين من الإحساسات أو مستمدين من التجربة ,وعليه فالمفهايم الرياضية
مفاهيم فطرية أصلها العقل و ليست مستمدة من التجربة بل هي منزهة عن ذلك.
النقد:
لقد بالغ أنصار المذهب العقلي في ردهم المفاهيم الرياضية الى العقل وحدهم
،ذلك أن للتجربة دور كبير في نشأتها و خير دليل على ذلك التطور الكبير الذي
عرفته الهندسة في مقابل الجبر لأنها تطبيق على أرض الواقع.
الموقف الثاني:المذهب التجريبي:
يرى
كل فلاسفة المذهب التجريبي على السواء بأن أصل المفاهيم الرياضية اصلها
تجريبي حسي شأنها شأن كل المعارف الإنسانية، وأن العقل مجرد صفحة بيضاء
تكتب عليها التجربة ماتشاء من مباديء و مفاهيم و أفكار و من بين هذه
المفاهيم نجد المفاهيم الرياضية ومن بين أشهر ممثلي هذا الطرح نجد الفلاسفة
الإنجليز جون لوك و جون ستوارت مل و دفيد هيوم
حيث استند جون لوك إلى
نقد نظرية الأفكار الفطرية حيث أن الطفل الصغير لا يمتلك هذا النوع من
الأفكار وبالتالي فليست موجودة أصلا وعليه فالعقل يولد خالي من أي فكرة
لهذا قال "وهذا يعني أن المعارف كلها بما فيها المبادئ الرياضية مكتسبة وما
هو مكتسب يؤخذ من العالم الحسي الواقعي الخارج عن الذات ووسيلة الاتصال
بهذا العالم هي الحواس الخمس "من هنا يؤكد جون لوك على الأصل التجريبي
الحسي للمفاهيم الرياضية المحتواة في العقل ولهذا فإن كل مفهوم رياضي
تجريدي في الذهن له مقابل في عالم الأشياء والظواهر الحسية فكل معرفة عقلية
هي صدى لادراكاتنا الحسية عن هذا الواقع.
وهذا مايذهب إليه أيضا
جون ستوارت مل بأن المفاهيم الرياضية مفاهيم حسية لذلك نجد أن علم النفس
يؤيد هذا التفسير حيث ان الطفل في سنين تعلمه الأولى لا يجيد الحساب إلا
إذا أقترن بأشياء حسية فإذا سئل 1+1كم يساوي ؟لن يعرف المجموع لكن إذا أعطي
تفاحة مثلا ثم أضيفت له أخرى فإنه يدرك أنهما اثنان وهذه حقيقة علمية
يستند عليها علم النفس المعاصر في المنظومات التعليمية الخاصة بمادة
الرياضيات خاصة في المرحلة الإعدادية حيث يعتمد على وسائل حسية لتعليم
الحساب كالقريصات والخشيبات ومن الناحية التاريخية فقد ارتبطت الرياضيات
عند المصرين والبابليين بالممارسات التجارية ،حتى الهندسة عند المصرين
ارتبطت بظاهرة طبيعية هي فيضان نهر النيل الذي كان يؤدي في كل مرة إلى
إتلاف الحدود بين الأراضي وإعادة تقسيمها استلزم على المصرين تعلم قواعد
حساب المساحات ولهذا معنى عند فحص المدلول اللغوي لكلمة هندسة باللفظ
اللاتيني(جيومتري) والتي تعني قياس الأراضي وكذلك شأن رموز الأعداد عند
المصرين القدامى التي كانت مستنبطة من حركات يدوية كوضع اليد على جبهة
الرأس للتدليل على العدد مائة و العدد خمسة هو عدد أصابع اليد
الواحدة،ونجد أنه حتى مفهوم الاحتمالات الذي يشكل مرحلة متقدمة من الفكر
الرياضي ارتبط بلعبة النرد الشعبية وبالتالي فإن ما يثبته تاريخ الرياضيات
بصفة عامة هو أن الرياضيات المشخصة كممارسة واقعية سابقة عن الرياضيات كعلم
مجرد ومنه فقد ارتبطت بالحواس أولا قبل العقل ، إذ يقول جون ستوارت مل:"أن
النقاط والخطوط والدوائر التي يحملها كل واحد منا في ذهنه هي مجرد نسخ من
النقاط والخطوط والدوائر التي عرفت في التجربة".
والرأي نفسه نجد
عند دفيد هيوم حيث يرى أن أصل المفاهيم الرياضية التجربة وأن من يولد وهو
فاقد لحاسة ما لا يمكنه أن يعرف ما كان يترتب من انطباعات على تلك الحاسة
المفقودة من معاني، حيث يقول دافيد هيوم ( كل ما اعرفه قد استمدته من
التجربة) ففكرة الدائرة جاءت من رؤية الإنسان للشمس والقرص جاءت كنتيجة
مشاهدة الإنسان للقمر، وفكرة المثلث مستوحاة من القمة الحادة للجبل،وخير
دليل يستند إليه أيضا أنصار المذهب التجريبي في تأكيدهم للأصل التجريبي
للمفاهيم الرياضية هو التطور الكبير الذي عرفته الهندسة في مقابل الجبر
لأنها تطبيق على أرض الواقع "الهندسة الإقليدية "إقليدس"و الهندسة
اللاإقليدية "لوباتشوفيسكي و ريمان".
النقد: لقد بالغ أنصار المذهب
التجريبي في ردهم المفاهيم الرياضية إلى التجربة فحسب لأن هذا إنكار لدور
العقل على الإبداع و الإبتكار و ليس لكلمفهوم رياضي مقابل حسي في العالم
الطبيعي كما يدعي الحسيين فالواقع يثبت وجود الكثير من المفاهيم مثل
اللانهاية والأعداد السالبة والمركبة وغيرها ليس لها مقابل حسي وبالتالي
فليست التجربة الحسية هي المصدر الوحيد لمبادئ علم الرياضيات فالعدد صفر
مثلا لا يوجد مقابل مادي له في الواقع.
التركيب:توفيقي:
إن أصل
المفاهيم الرياضية يعود إلى الترابط والتلازم الموجود بين التجربة والعقل
فلا وجود لعالم مثالي للمعاني الرياضية في غياب العالم الخارجي ولا وجود
للأشياء المحسوسة في غياب الوعي الإنساني .والحقيقة أن المعاني الرياضية لم
تنشأ دفعة واحدة ,وان فعل التجريد أوجدته عوامل حسية وأخرى ذهنية وهذا ما
يؤكده العديد من الفلاسفة و الرياضيين كالعالم الرياضي السويسري غونزيث
الذي يقول:"في كل بناء تجريدي ,يوجد راسب حدسي يستحيل محوه وإزالته .وليست
هناك معرفة تجريبية خالصة ,ولا معرفة عقلية خالصة.بل كل ما هناك أن أحد
الجانبين العقلي والتجريبي قد يطغى على الآخر ,دون أن يلغيه تماما" و الرأي
نفسه نجده عند البلجيكي جورج سارطون الذي يقول:" لم يدرك العقل مفاهيم
الرياضية في الأصل إلا من جهة ما هي ملتبسة باللواحق المادية ولكن انتزعها
بعد ذلك من مادتها وجردها من لواحقها حتى أصبحت مفاهيم عقلية محضة بعيدة عن
الأمور الحسية".
وحسب رأيي الشخصي إن تعارض القولين العقلي و
التجريبي لا يؤدي بالضرورة إلى رفضهما لأن كلا منهما صحيح في سياقه ،ويبقى
أصل المفاهيم الرياضية هو ذلك التداخل والتكامل الموجود بين العقل
والتجربة فلا يمكن إنكار دور كلا منهما في نشأة المفاهيم الرياضية.
الخاتمة:
ومن
كل التحليل المنهجي السالف نستنتج أن لا العقل لوحده يمكنه تفسير أصل نشأت
المفاهيم الرياضية ولا الحواس لوحدها قادرة على ذلك لذلك وجب الجمع بينهما
أي أن العقل والحواس معا متكاملان ومتمازجان يفسران نشأت مبادئ علم
الرياضيات لذلك يمتنع الفصل بينهما ليس في مسألة المعارف الرياضية فحسب بل
في كل أصناف المعارف الإنسانية الأخرى،حيث يقول الفيلسوف الألماني هيغل:"
كل ما هو عقلي واقعي وكل ما هو واقعي عقلي" وأما بخصوص علم الرياضيات فإنه
يبقى أرقى العلوم دقة وتميزا وذلك ناتج من طبيعة موضوعاته ومناهجه المنسجمة
معها والتي تنتج عنها حقائق صارمة إنبهر الكثير من الفلاسفة والعلماء بها.
جدلية: هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية
المقدمة:
إذا كانت الرياضيات تدرس المفاهيم المجردة،فإن العلوم الطبيعية تدرس
الاشياء الحسية الواقعية أي الظواهر الطبيعية عن طريق المنهج التجريبي،وهو
المنهج الذي استخدمته في البداية العلوم التجريبية في المادة الجامدة والذي
كان وراء نجاحها و تقدمها وزهذا مايجعل العلوم المبتدئة في الطموح الى هذا
الهدف كعلوم المادة الحية "البيولوجيا" تحاول تقليدها في تطبيق المنهج
العلمي
الأمر الذي كان موقع خلاف بين الفلاسفة و العلماء فكان البعض
منهم يؤمن بإمكانية تطبيق المنهج التجربيي على المادة الحية بنفس الكيفية
المطبقة في المادة الجامدة ، و يذهب آخرون إلى عدم إمكانية تطبيقه على
المادة الحية لأن لها خصوصياتها التي تمنع ذلك والإشكال الذي يطرح نفسه:هل
يمكن فعلا تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية على غرار المادة
الجامدة ؟
محاولة حل المشكلة:
أ- الاطروحة :يرى البعض ، أنه لا يمكن
تطبيق المنهج التجرببي على الظواهر الحية بنفس الكيفية التي يتم فيها
تطبيقه على المادة الجامدة ، إذ تعترض ذلك جملة من الصعوبات و العوائق ،
بعضها يتعلق بطبيعة الموضوع المدروس ذاته و هو المادة الحية ، و بعضها
الاخر الى يتعلق بتطبيق خطوات المنج التجريبي عليها
ب- الحجة : و يؤكد
ذلك ، أن المادة الحية – مقارنة بالمادة الجامدة – شديدة التعقيد نظرا
للخصائص التي تميزها ؛ فالكائنات الحية تتكاثر عن طريق التناسل للمحافظة
على النوع و الاستمرار في البقاء . ثم إن المحافظة على توازن الجسم الحي
يكون عن طريق التغذية التي تتكون من جميع العناصر الضرورية التي يحتاجها
الجسم . كما يمر الكائن الحي بسلسلة من المراحل التي هي مراحل النمو ،
فتكون كل مرحلة هي نتيجة للمرحلة السابقة و سبب للمرحلة اللاحقة هذا ، و
تعتبر المادة الحية مادة جامدة أضيفت لها صفة الحياة من خلال الوظيفة التي
تؤديها ، فالكائن الحي يقوم بجملة من الوظائف تقوم بها جملة من الاعضاء ،
مع تخصص كل عضو بالوظيفة التي تؤديها و اذا اختل العضو تعطلت الوظيفة و لا
يمكن لعضو آخر أن يقوم بها . و تتميز الكائنات الحية – ايضا – بـالوحدة
العضوية التي تعني ان الجزء تابع للكل و لا يمكن أن يقوم بوظيفته الا في
اطار هذا الكل ، و سبب ذلك يعود الى أن جميع الكائنات الحية – باستثناء
الفيروسات – تتكون من خلايا، و بشكل عام ، فإن التجريب يؤثر على بنية
الجهاز العضوي ، ويدمر أهم عنصر فيه وهو الحياة.
و من العوائق كذلك ،
عائق التصنيف و التعميم ؛ فإذا كانت الظواهر الجامدة سهلة التصنيف بحيث
يمكن التمييز فيها بين ما هو "غازي ،سائل ،وصلب" وبين أصناف الظواهر داخل
كل صنف ، فإن التصنيف في المادة الحية يشكل عقبة نظرا لخصوصيات كل كائن حي
التي ينفرد بها عن غيره، ومن ثـمّ فإن كل تصنيف يقضي على الفردية ويشوّه
طبيعة الموضوع مما يؤثر سلبا على نتائج البحث وهذا بدوره يحول دون تعميم
النتائج على جميع افراد الجنس الواحد ، بحيث ان الكائن الحي لا يكون هو هو
مع الانواع الاخرى من الكائنات ، ويعود ذلك الى الفردية التي يتمتع بها
الكائن الحي فما يبطبق على الفئر في المختبر لا ينطبق على كائن حي آخر فلكل
مميزاته و خصائصه التي تميزه عن غيره من الحيوانات يقول لايبينتز
لايوجد فردان متشابهان ).
بالاضافة الى الصعوبات المتعلقة بطبيعة الموضوع ، هناك صعوبات تتعلق
بالمنهج المطبق و هو المنهج التجريبي بخطواته المعروفة ، و أول عائق
يصادفنا على مستوى المنهج هو عائق الملاحظة ؛ فمن شروط الملاحظة العلمية
الدقة و الشمولية و متابعة الظاهرة في جميع شروطها و ظروفها و مراحلها ،
لكن ذلك يبدو صعبا ومتعذرا في المادة الحية ، فلأنها حية فإنه لا يمكن
ملاحظة العضوية ككل نظرا لتشابك و تعقيد و تداخل و تكامل و ترابط الاجزاء
العضوية الحية فيما بينها ، مما يحول دون ملاحظتها ملاحظة علمية ، خاصة عند
حركتها أو اثناء قيامها بوظيفتها . كما لا يمكن ملاحظة العضو معزولا ،
فالملاحظة تكون ناقصة غير شاملة مما يفقدها صفة العلمية ، ثم ان عزل العضو
قد يؤدي الى موته ، يقول أحد الفيزيولوجيين الفرنسيين وهو كوفييني : " إن
سائر اجزاء الجسم الحي مرتبطة فيما بينها ، فهي لا تتحرك الا بمقدار ما
تتحرك كلها معا ، و الرغبة في فصل جزء منها معناه نقلها من نظام الاحياء
الى نظام الاموات"
و دائما على مستوى المنهج ، هناك عائق التجريب
الذي يطرح مشاكل كبيرة ؛ فمن المشكلات التي تعترض العالم البيولوجي مشكلة
الفرق بين الوسطين الطبيعي و الاصطناعي ؛ فالكائن الحي في المخبر ليس كما
هو في حالته الطبيعية ، إذ أن تغير المحيط من وسط طبيعي الى شروط اصطناعية
يشوه الكائن الحي و يخلق اضطرابا في العضوية و يفقد التوازن "كالعصفور مثلا
في الطبيعة ليس هو نفسه في القفص"فالإضطرابات النفسية التي تصيبه تأثر
كثيرا على النتائج المتوصل إليها في التجربة
ومعلوم ان التجريب في
المادة الجامدة يقتضي تكرار الظاهرة في المختبر للتأكد من صحة الملاحظات و
الفرضيات ، و اذا كان الباحث في ميدان المادة الجامدة يستطيع اصطناع و
تكرار الظاهرة وقت ما شاء "كأن نجرب مثلا على معدن من المعادن كالحديد مثلا
فنجده يتمدد بالحرارة،فنعيد التجربة مرات و مرات ثم نصل إلى نتيجة عامة
مفادها أن الحديد يتمدد بالحرارة و نعمم هدا الحكم على جميع المعادن"، ففي
المادة الحية يتعذر تكرار التجربة لأن تكرارها لا يؤدي دائما الى نفس
النتيجة ، مثال ذلك ان حقن فأر بـ1سم3 من المصل لا يؤثر فيه في المرة
الاولى ، و في الثانية قد يصاب بصدمة عضوية ، و الثالثة تؤدي الى موته ،
مما يعني أن نفس الاسباب لا تؤدي الى نفس النتائج في البيولوجيا ، و هو ما
يلزم عنه عدم امكانية تطبيق مبدأ الحتمية بصورة صارمة في البيولوجيا ، علما
ان التجريب و تكراره يستند الى هذا المبدأ.
ويضاف الى كل هذه
الصعاب مجموعة الموانع الدينية والخلقية والقانونية التي تحرم وتمنع
التجريب على الأحياء، فهناك العديد من الهيئات الدينية و الإنسانية ترفض
إستخدام المنهج التجريبي على المادة الحية ،خصوصا مع ظهور فكرة
الإستنساخ،فالإنسان كائن مقدس لايمكن تشبيهه بالمادة الجامدة.
جـ- النقد
: لكن هذه مجرد عوائق تاريخية لازمت البيولوجيا عند بداياتها و محاولتها
الظهور كعلم يضاهي العلوم المادية الاخرى بعد انفصالها عن الفلسفة ، كما ان
هذه العوائق كانت نتيجة لعدم اكتمال بعض العلوم الاخرى التي لها علاقة
بالبيولوجيا خاصة علم الكمياء .. و سرعان ما تــمّ تجاوزها.
أ- نقيض
الاطروحة : وخلافا لما سبق ، يعتقد البعض أنه يمكن اخضاع المادة الحية الى
المنهج التجريبي ، فالمادة الحية كالجامدة من حيث المكونات ، وعليه يمكن
تفسيرها بالقوانين الفيزيائية- الكميائية أي يمكن دراستها بنفس الكيفية
التي ندرس بها المادة الجامدة، يقول غوبلو ( لاشيء مستحيل في العلم) .
ويعود الفضل في ادخال المنهج التجريبي في البيولوجيا الى العالم
الفيزيولوجي ( كلود بيرنار ) في كتابه "المدخل الى علم الطب التجريبي"
متجاوزا بذلك العوائق المنهجية التي صادفت المادة الحية في تطبيقها للمنهج
العلمي حيث يقول:" إن إنكار تحليل الكائنات الحية عن طريق التجربة هو إنكار
للمنهج التجريبي و إيقاف للعلم"
ب- الادلة : و ما يثبت ذلك ، أنه
مادامت المادة الحية تتكون من نفس عناصر المادة الجامدة كالاوكسجين و
الهيدروجين و الكربون و الكالسيوم و الفسفور ... فإنه يمكن دراسة المادة
الحية تماما مثل المادة الجامدة هذا على مستوى طبيعة الموضوع.
أما
على مستوى المنهج فقد صار من الممكن القيام بالملاحظة الدقيقة على العضوية
دون الحاجة الى فصل الاعضاء عن بعضها ، أي ملاحظة العضوية وهي تقوم
بوظيفتها ، و ذلك بفضل ابتكار وسائل الملاحظة كالمجهر الالكتروني و الأشعة و
المنظار، بالاضافة الى اكتشاف الكثير من العلوم المساعدة للبيولوجيا مثل :
علم الوراثة ،علم التشريح ،علم الخلية.
كما أصبح على مستوى
التجريب القيام بالتجربة دون الحاجة الى ابطال وظيفة العضو أو فصله ، و حتى
و إن تــمّ فصل العضو الحي فيمكن بقائه حيا مدة من الزمن بعد وضعه في
محاليل كميائية خاصة وخير دليل على ذلك التطور الكبير الذي عرفه مجال الطب
من خلال زراعة الأعضاء "كزراعة القلب،الكلى،الكبد،...".وتجارب التهديم و
التي تقوم على قطع العضو و استئصاله قصد التعرف على وظيفته و تأثيره على
بقية الأعضاء "كقطع الأعصاب مثلا"
وماتاريخ العلم إلا دليل على أنه
من الممكن تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية من خلال التجارب التي
قام بها كلود برنار حول بول الأرانب حيث بين بأن المادة الحية تخضع لمبدأ
الحتمية كالظواهر الجامدة و بالتالي يمكن دراستها دراسة تجريبية و تفسيرها
تفسيرا سببيا للوصول الى القوانين التي تتحكم فيها:" جميع الحيوانات الآكلة
العشب إذا ما فرغت بطونها تغذت على المواد المدخرة في أجسامها وهي عبارة
عن بروتينات" و كذلك التجارب التي قام بها مندل حول نبات البازلاء و التي
أدت إلى ظهور علم الوراثة الذي وصل إلى أعلى درجات العلم ،و الشيء نفسه في
الأبحاث التي قام بها باستور بإكتشاف داء الكلب و الجمرة الخبيثة التي كانت
تصيب الماشية ،وكذا التفنيد التجريبي لفكرة النشوء العفوي للجراثيم.
بالإضافة إلى كل هذا تطور الوعي الإنساني عموما الذي سمح بالتشريح
والتجريب في البيولوجيا إلى الحد الذي جعل بعض الأفراد يهبون أجسامهم و
أعضائهم بعد وفاتهم لمراكز البحث العلمي للتجريب عليها بل و الإستفادة منها
إذا أمكن ذلك.
جـ- النقد : ولكن لو كانت المادة الحية كالجامدة لأمكن
دراستها دراسة علمية على غرار المادة الجامدة ، غير ان ذلك تصادفه جملة من
العوائق و الصعوبات تكشف عن الطبيعة المعقدة للمادة الحية . كما انه اذا
كانت الظواهر الجامدة تفسر تفسيرا حتميا و آليا ، فإن للغائية إعتبار و
أهمية في فهم وتفسير المادة الحية ، مع ما تحمله الغائية من اعتبارات
ميتافيزيقية قد لا تكون للمعرفة العلمية علاقة بها. .
التركيب : و بذلك
يمكن القول أن المادة الحية يمكن دراستها دراسة علمية ، لكن مع مراعاة
طبيعتها وخصوصياتها التي تختلف عن طبيعة المادة الجامدة ، بحيث يمكن
للبيولوجيا ان تستعير المنهج التجريبي من العلوم المادية الاخرى مع
الاحتفاظ بطبيعتها الخاصة كما يذهب عليه أستاذ علم الوراثة الفرنسي فرنسوا
جاكوب الذي يرى بأن المادة الحية تخضع للتجريب كما هو الشأن في المادة
الجامدة و لكن هذا مع مراعاة خصوصياتها .
وحسب رأيي الشخصي فإن الظواهر
الحية قابلة للمنهج التجريبي إذا تمكنا من معرفة طبيعة هذه الظواهر و
خصائصها،والقوانين التي تحكمها و ما يظهر من عوائق من حين لآخر في ميدان
البحث،فهذا لا يعود إلى الظاهرة،بل يرتد إلى قصور و سائل البحث.
الخاتمة:
وهكذا
يتضح ان المشكل المطروح في ميدان البيولوجيا على مستوى المنهج خاصة ، يعود
اساسا الى طبيعة الموضوع المدروس و هو الظاهرة الحية ، والى كون
البيولوجيا علم حديث العهد بالدراسات العلمية ، و يمكنه تجاوز تلك العقبات
التي تعترضه تدريجياوعليه فالتجريب في البيولوجيا أمر ممكن و واقع و لكنه
محدود مقارنة بالعلوم الفيزيائية و الكيميائية بالطبيعة المعقدة للكائنات
الحية و الإعتبارت الأخلاقية و العقائدية و الإديويولوجية.
وللحديث بقية لا تنسوا الدعاء لنا