لكن الظرف الزمني الذي جرت فيه الاتصالات الفرنسية والرقعة الجغرافية المحيطة بمسرح هاته الأحداث شهدت هي الأخرى أحداثا تصب في نفس الاتجاه الخياني ولديها قواسم مشتركة مع حركة بلونيس، ومن أبرزها ما يسمى بجيش العميل الشريف السعيدي الذي يقول عنه الرائد لخضر بورقعة (71) بأنه انضم إلى جيش التحرير بطلب من فرنسا وتمكن من الإرتقاء إلى مصاف المسؤولين الكبار حيث عينه القائد علي ملاح (المعين لقيادة الولاية السادسة في مؤتمر الصومام) كأحد نوابه فاستغل السعيدي التصرفات غير اللائقة لأحد الضباط المسؤولين المدعو الروجي ليخلق شرخا في أوساط المجاهدين (81) وتمكن من الغدر بالروجي وقتله ثم ادعى بأن القبائل جاؤوا لاحتلال مناطق العرب والسيطرة عليها كما تمكن من الإيقاع بالعديد من الإطارات خاصة منهم القبائل• وبلغ عدد الضحايا بالمئات (91) مقابل ذلك لا يمكن نكران الدور الفرنسي في إذكاء نار الفتنة وذلك من خلال الكتابات والتصريحات الصادرة آنذاك وتداعيات مؤتمر الصومام إذ يقول الكولونيل (فودار) (بأن مؤتمر الصومام انقلاب قبائلي) (02) وهناك ادعاءات أخرى غذتها الأبواق الاستعمارية وكانت متواجدة في أبجديات مناوئي الثورة وهي القول بأن الجبهة شيوعية والشيوعية آنذاك في مفهوم المواطنين مرادفة للكفر والإلحاد بل، وحتى البربرية في أدبيات الحركة المصالية قبل الثورة كانت مرادفة للشيوعية (12)، حيث غالبا ما يربط مصالي في خطاباته البربرية بالشيوعية ومعاداة الإسلام (22 )•
كل هاته الدعايات وجدت صداها لدى أتباع الشريف السعيدي وحتى بلونيس، بل وحتى حركة كوبيس التي ظهرت هي الأخرى بالولاية الرابعة •
هذا جزء من الوضع العام السائد عشية أحداث بني يلمان
تعرضنا سابقا إلى الطوق المضروب على عناصر الحركة الوطنية المنضوين تحت لواء بلونيس، هذا الطوق كان مكلفا بالنسبة لجيش التحرير إلى حد كبير بسبب الاشتباكات الدامية المتتالية• فالرائد لخضر بورفعة (32) قدر عدد الجنود الذين استشهدوا في ضواحي بني يلمان بـ 11 في حين يذكر مصدر آخر بأن عبد الرحمان ميرة أحد قادة الولاية الثالثة فقد 200 جندي في الاشتباكات مع قوات بلونيس من بين 300 مجاهد كانوا تحت قيادته
وعن الأسباب المباشرة للمجزرة التي يعترف بمسؤوليته عنها العقيد محمدي السعيد قائد الولاية الثالثة آنذاك حيث يقول بأن تمركز المصاليين في منطقة بني يلمان شل نشاط جيش التحرير وحال دون وصول التموينات والتواصل بين جنوب الوطن وشماله (52) وهو الأمر الذي دعا إلى تطهير المنطقة من المصاليين• ومن جهته يرى أحمد توفيق المدني (62) بأن جبهة التحرير طلبت من سكان بني يلمان تسليمهم (27) رجلا فارين من السجن كانوا يأوونهم لكنهم رفضوا ذلك بل شتموا جيش التحرير •
فقرار العقاب الجماعي لسكان بني يلمان حسب أحمد قادري اتخذ خلال اجتماع ضم قائد المنطقة أعراب أودان وعبد القادر الباريكي وسي سليمان ورابح الثائري وعلاوة سوان وأحمد قادري وبوجمعة أحسن •
وبناء على هذا القرار وفي الساعات الأولى من فجر 28 ماي كان المئات من جنود جيش التحرير في مشتى قصبة، حيث دعوا السكان المحيطين بالمشتى إلى التجمع بمسجد القرية وبعض المساكن المحيطة به لسماع خطبة يلقيها أحد المسؤولين الجبهويين وقد استجاب سكان القرية والقرى المجاورة للنداء فرادى وجماعات، وخلال هذا التجمع الذي كان يخطب فيه عبد القادر الباريكي داعيا إلى التخلي عن دعم مساندة الحركة الوطنية وفلول بلونيس صاح أحد المواطنين في وجهه قائل>نموت من أجل مصالي< ومنها بدأت المجزرة التي أنهت حياة ما يقارب 300 مواطن بمن فيهم الأطفال والنساء •
فإذا كان قرار تأديب الموالين لبلونيس قد اتخذ قبل ذلك فهل ما تلفظ به هذا الشيخ أمام عبد القادر الباريكي كاف لهذا القتل الجماعي حسب ما جاء برسالة الباريكي (13)، فبتسليط الضوء على مجرى هذا اليوم يمكن أن نلتمس بعض القرائن التي توحي بأن هناك أطرافا خفية كانت تحرك خيوط الحادثة ومن أهمها :
1) إن اختيار مكان مشتى قصبة حيث يعتبر من أول التجمعات التي تقع على خط التماس بين العرب والقبائل لتقع فيه المأساة، تدعم المزاعم الفرنسية وأذنابها من الحركة البلونيسية بهدف الإيقاع بين العرب والقبائل على غرار ما قام به العميل الشريف السعيدي •
2) اختيار الزمان لم يكن عفويا؛ أن يكون بيومين قبل لقاء الحاسم والعلني بين بلونيس والضابط كومبيط في نفس المكان وبتاريخ محدد مسبقا وباستعراض علني يوم 31 ماي 1957 •
3) هناك شهادة لأحد أتباع بلونيس (يقول فيها بأنه كان متواجدا في مشتى قصبة يوم الحادثة وشاهد جيش التحرير يزحف نحو جنود بلونيس البالغ عددهم 14 فردا والذين فروا بعد اشبتاك في حين كان جيش بلونيس متواجدا على بعد 50 كلم بجبل ديرة ولم يصلوا إلى المشتى إلا في حدود الساعة الخامسة مساء، بعد أن تم إبلاغه ليجد بأن كل شيء انتهى ولم يبق إلا النساء •
وجاء في شهادة أخرى لأحد نواب بلونيس (قبل أن ينضم للجيش الفرنسي) يقول فيها بأنه قضى ليلة 27 و28 ماي عند عائلته في مشتى قصبة بهدف ترتيب لقاء بين النقيب كومبيط وبلونيس ليوم 31 ماي فرأى في صبيحة28 ماي جنوب جيش التحرير حيث اشتبك معهم في حدود الساعة30:11 وكان بصحبة20من جنوده الخيالة وبعدها أشعر القيادة الفرنسية بواسطة الراديو، ولم يحضر النقيب الفرنسي كومبيط إلا في حدود الساعة الرابعة من نفس اليوم وأمام القوات العديدة لجيش التحرير تراجع إلى مقر قيادته (حسب زعمه)•
وهنا نتسائل لماذا لم يطلب النقيب الدعم حين أشعر بوجود جيش التحرير منذ منتصف النهار؟ مع العلم بأن الوقت بداية الصيف والنهار أطول وبالتالي كان لديه الوقت الكافي لطلب النجدة والدعم إذ كان عدد قواته لا يكفي للمواجهة •
4) مصدر خبر تواجد جيش التحرير لم يبلغ القيادة الفرنسية عن طريق عملاء بلونيس فقط، بل كانت هناك طائرات استطلاعية تحوم حول المنطقة (43) وأبلغت القوات الفرنسية المتواجدة على تخومها بوجود حريق في المشتى على الساعة 10 صباحا وهو ما يؤكده النقيب كومبيط قائد فيلق المدرعات في شمال ملوزة وبني يلمان (53) في محضر قاضي التحقيق العسكري حسب ما جاء في كتاب هنري علاف حرب الحزائر •
5) يذكر المواطنون بأن يوم المجزرة شهد تواجدا مكثفا للقوات الفرنسية في محيط المنطقة، وعلى مرأى من هاته القوات كانت أفواج المواطنين المدعويين للاجتماع من المداشر المحيطة تتوافد جماعات إلى مكان الحادثة فهل هذا لم يثر فضول هاته القوات، وفوق كل ذلك ألم يتناهى إلى مسمع الجيش الفرنسي نبأ الاجتماع رغم أن الدعوة كانت عامة؟ 6) صوت الرصاص الذي دوى منذ الساعة30: 11 خلال الاشتباكات بين جيش التحرير وإحدى وحدات بلونيس من جهة، ومن جهة أخرى قتل البعض أثناء الحادثة بالرصاص كذلك، فضلا عن ألسنة اللهب المتصاعد جراء حرق سيارة في أعلى السفوح بالمنطقة•• كل ذلك ألم يلفت انتباه القوات المتمركزة بالمنطقة؟
7) كيف نفسر غياب بلونيس وجيشه عن المنطقة أو انسحابه على بعد 50 كلم عشية الحادثة مع جميع قواته ولم يترك إلا مجموعة من 14 فردا لإعداد اللقاء مع كومبيط كما سبق أن لم يكن هناك أمر مبيت مع العلم أن مقر قيادته موجود في نفس المكان
كل هاته المعطيات تؤكد بأن هناك ضلعا للقوات الفرنسية والمصالية في أحداث بني يلمان •
وهنا نعود إلى المؤامرة التي كشفها عميروش والمعروفة باسم لابلويت وأبلغ عنها سائر قادة الولايات سنة 1958، وإن كان بعض قادة الثورة ينفونها كعلي كافي (63) فإن قادة الولاية الثالثة والرابعة يؤكدونها، وإذا كان اكتشاف المؤامرة يرجح إلى سنة 1958 فذلك لا ينفي عدم وجودها قبل هذا التاريخ• فالعقيد حسان الخطيب أحد قادة الولاية الرابعة يقول بأن بداية تشكيل هاته العناصر المندسة يرجع إلى سنة 1956 حيث التحقت المجموعة الأولى بالثورة• وكانت في وضعية انتظار (73) وبدأت تتشكل كمنظمة داخل جيش التحرير والمجموعة الثانية تكونت في الجبال وانضمت على أساس ممنوعات الثورة (أي الذين ارتكبوا أخطاء أخلاقية خلال الثورة منهم المندسون إلى جانبهم) وبالفعل تم اكشتاف ما يقارب 200 مندس داخل الثورة بالولاية الرابعة وحدها وكانوا على اتصال مع العدو (83)• العقيد عميروش قائد الولاية الثالثة وفي رسالته إلى الولايات سنة 1958 وبعد سلسلة من الاستنطاقات للمشبوهين يؤكد بأن هذا التيار متواجد منذ إضراب 1956 وهو مشكّل من عناصر لها نشاط سياسي قبل الثورة وعناصر من الحركة الوطنية والمصاليين، كما تشير رسالة عيمروش لكافي (93 )•
وهناك شهادات لمواطنين في عين المكان يؤكدون بأنهم رأوا أشخاصا بلباس جيش التحرير يحملون علامات زرقاء على ظهورهم •
كل هذه المعطيات يوحي بوجود اختراق في صفوف جيش التحرير والقرار الذي اتخذته قيادة الولاية الثالثة لا يعني القتل الجماعي والعشوائي فهو يخص المصاليين فقط وما حدث خلال الواقعة غير ذلك •
وهناك واقعة أخرى حدثت في نفس الظرف الزمني تؤكد سياسة الاختراق التي قامت بها عناصر مصالية في صفوف جيش التحرير وطفت على السطح في نفس الفترة الزمنية (أي نهاية السداسي الأول من سنة1957) وكان مسرحها الولاية السادسة، إذ بعد استشهاد زيان عاشور في 09 نوفمبر 1956 وتعيين الرائد عمر إدريس مكانه استغل غياب هذا الأخير في ماي 1957 وذهابه للقاء العقيد لطفي قائد الولاية الخامسة، أجهزت على من استخلفه الشهيد عبد الرحمان حاشي وقامت باستدعاء الإطارات الواحد تلوى الآخر مستغلة الختم وتزييف إمضاء عبد الرحمان حاشي وقامت بالغدر بهم الواحد تلو الآخر إذ بلغ عددهم أكثر من 80 ضابط من جيش التحرير كل ذلك بهدف احتواء جيش التحرير (14 )•
وعلى غرار ما جرى في الولاية السادسة، كانت الولاية الرابعة تشهد معركة مع ما يسمى بجيش عبد القادر بالحاج الجيلالي المدعو كوبيس والذي هو الآخر كان أحد أعضاء المنظمة السرية للحركة الوطنية ثم تحول إلى مخبر لدى السلطات الفرنسية وبحكم علاقاته بالثوار استطاع أن ينظم إليهم وكسب ثقتهم وفي بداية 1956 كون أول نواة له مشكلة من 40 فردا مدعيا بأنه يحارب من أجل استقلال الجزائر ومتهما الجبهة بالشيوعية ومما ساعده في دعايته تمركزه بمنطقة الشلف حيث تتواجد نواة المحاربين الشيوعيين أو ما يسمى بالمقاتلين من أجل الحرية وبالتالي وظّف ورقة الإسلام والشيوعية، ومع حلول ربيع 1957 كان تحت سلطته ما يقارب 400 فردا وبرز بشكل علني تواطؤه مع الاستعمار في جوان 1957 أثناء معركة مع جيش التحرير إذ تدخلت القوات الفرنسية بالطائرات لصالحه (24) وهو نفس الشهر الذي انضم فيه بلونيس ووقعت الأحداث سابقة الذكر بالولاية السادسة، مما يؤكد بأنهم بيادق تحركهم يد واحدة، يضاف إلى ذلك أن مؤطري هاته العمليات من الفرنسيين وهم نفس الأشخاص هانتيك سيوزي•• إلخ •
يتبع>>>>>>