إن أحداث بني يلمان أو ما يعرف بأحداث ملوزة تعتبر من الأحداث التراجيدية التي وقعت إبان ثورة التحرير، فمثل ما تعكس الصراع الدموي بين جبهة التحرير الوطني والجناح المسلح للحركة الوطنية، تكشف بالمقابل عن دهاء السلطات الفرنسية بتمكنها من إدارة حرب بسيكولوجية ترمي إلى إضعاف طرف بواسطة الآخر وقطف ثمار مسقية بدماء الجزائريين •
لمجد ناصر
مثل هاته الأحداث الدموية التي كانت بني يلمان مسرحا لها، لم تكن الأولى ولا الأخيرة خلال ثورة التحرير فقبلها بأشهر وقعت أحداث أكثر دموية بقرى وادي أميزور بكل من دواوير فرعون ونداخر وآيت خاطب، أو ما اصطلح على تسميته بالليالي الحمراء• حيث تم إعدام ما بين 300 و400 عميل حسب المجاهدين (1) في حين يرى الطرف الفرنسي بأنها تصل إلى الألف (2)• وقع ذلك حين حاول أحد النافذين من العلماء تشكيل قوة مناوئة للثورة، ومع ذلك لم تأخذ هاته الأحداث تهويلا وتدويلا بمثل أحداث بن يلمان التي لم تتجاوز عدد ضحاياها 300 مواطن حيث دوى صداها في المحافل الدولية ونقلت صورها شاشات التلفزيون وتصدرت الصحف العالمية آنذاك •
بعد الاستقلال كان الحديث والبحث في هاته الحادثة من المحظورات في التناول التاريخي الرسمي لثورة التحرير، وبالتالي لا يمكن الإطلاع على وقائعها إلا من المنظار التاريخي الفرنسي، فباستثناء الكاتب المتخصص محمد عباس (3)، الذي كسر أبواب الصمت أو بعض الكتابات العابرة والعاطفية أحيانا لبعض المجاهدين والسرد السطحي لبعض الصحفيين للواقعة تبقى القضية في دائرة الزوايا المظلمة، ويزيد من ظلمتها اعتبارها من الطابوهات لدى السلطة •
فمؤخرا، حاولت مجموعة من الجمعيات الشبانية لبلدية بني يلمان تنظيم ملتقى حول الأحداث وكان ذلك منذ سنتين فحضر الكتاب محمد عباس، الطاهر بن عائشة واحميدة عياشي وطائفة أخرى من المؤخرين، وفي آخر لحظة بقرار إداري تم إلغاء هذا الملتقى (4) ومنذ ذلك اليوم ازداد فضولي لمعرفة ما وقع ذات ليلة من 28 ماي 1957 •
فالرقعة التي وقعت فيها مأساة بني يلمان كانت مسرحا لتجاذب ثلاثة أطراف كل يسعى لبسط نفوذه والهيمنة عليها لما لها من أهمية من حدث الموقع الجغرافي والتضاريس الوعرة، فال 1200 م، يمكنه رصد جميع التحركات من الشمال إلى الجنوب ومن الشمال إلى الشرق، حيث تقع في أقصى جنوب الولاية الثالثة وحدود الولاية السادسة من شمالها والولاية الأولى وتتاخم حدود الولاية الرابعة •
إذن فتأخر وصول الطلائع الأولى للثورة من كلتا الجهات في تثبيت نظام جيش وجبهة التحرير في بداية الثورة بالمنطقة ولجوء فلول الحركة الوطنية (البلونيسية) إليها بعد المطاردة التي تعرضت لها بالولاية الثالثة والرابعة مكنها من بسط نفوذها على هذه الناحية حيث كان التواجد الفرنسي قليلا إذ ارتكزت قواته في المناطق التي عرف فيها جيش التحرير نشاطا كثيفا، فما هو حال الثورة عشية الأحداث •
حرب النفوذين: الجبهة والحركة الوطنية
إن ظهور تنظيم مسلح باسم الحركة الوطنية مناوئ لجبهة التحرير الوطني ومن صلب الحركة الوطنية السياسية ويدعي قيامه بثورة لتحرير الوطن لم يكن مطروحا في تقديرات مفجري الثورة التحريرية بقيادة جبهة التحرير الوطني، وبالتالي فإن مواجهة مع هذا الواقع الجديد لم تكن يخضع في بداية الثورة لإستراتيجية عامة وموحدة، وما حال دون ذلك كذلك عدم تمكن مفجري لثورة من الالتقاء ببعضهم البعض فمنهم من استشهد ومنهم من اعتقل ومنهم من هاجر طالبا الدعم بالمدد (كمحمد بوضياف •
وهذا الواقع أفرز قيادات جديدة عسكرية وسياسية ومن بينها عبان رمضان مما فتح باب الاجتهاد لمواجهة هذا التنظيم العسكري الجديد الذي كانت الولاية الثالثة والسادسة والرابعة أكثر تعرضا له •
فأولى طلائع ما يسمى بالحركة الوطنية ظهرت في بداية 1955 أي 6 أشهر بعد اندلاع الثورة التحريرية، فكان الفوج الأول مكونا من 600 مقاتل بقيادة محمد بلونيس في حين تمركز الفوج الثاني بناحية فانزات بقيادة رابح البرادي، فآثرت الولاية الثالثة استئصال هذا التنظيم بواسطة المواجهة الدموية إذ كتب عبان رمضان في رسالة موجهة إلى خيذر بتاريخ 21 أفريل يقول فيها لقد قررنا القضاء على قادة الحركة المصالية وأن مصالي الحاج العدو الأول للجزائر لأن أصدقاءه المصاليين أصبحوا يطاردون مناضلينا (6 )•
وبالفعل صدرت الأوامر إلى العسكري الصادق دهيليس لمواجهتهم عسكريا إذ يؤكد بأنه في النصف الثاني من أكتوبر 1955 فاجأ المصاليين في منطقة بن داود وجردهم من السلاح (7) في حين تولى تصفية المجموعة الثانية العقيد عميروش في منطقة فنزات (
، وتوالت الاشتباكات بين الطرفين حيث مالت الكفة لصالح جيش التحرير مما جعل فلول الحركة الوطنية تتراجع إلى جنوب الولاية الثالثة وشمال الولاية السادسة، (وهي المنطقة الثالثة من الولاية الأولى قبل إنشائها في مؤتمر الصومام) إذ كانت تحت قيادة مصطفى بن بولعيد •
هذا الأخير كانت له رؤية خاصة تجاه هذا التنظيم فقد كان يطمح إلى ضمه إلى صفوف جيش التحرير ويتجلى ذلك من خلال سعيه إلى استمالة مصالي الحاج ويبدو أن حبل الود بين الطرفين لم يصل في بداية الثورة على الأقل إلى مرحلة الانقطاع، ومما يؤكد تلك العلاقة موقف مصالي الحاج من اعتقال مصطفى بن بولعيد إذ راسل الأمين العام للأمم المتحدة (داج هموشلد) بتاريخ 5 سبتمبر 1955 طالبا منه التدخل لمنع الجيش الفرنسي من تنفيذ حكم الإعدام في حق عدد من الجزائريين وعلى رأسهم مصطفى بن بولعيد (9) ومما زاد من ضبابية سيرة الحركة الوطنية المسلحة لدى قيادة الولاية الأولى عدم وجود أفواج في مناطق الشمالية للولاية• ولم تظهر هاته الأفواج إلا في جنوبها كما أسلفنا• حيث كانت هاته المنطقة تحت قيادة الشيخ زيان عاشور هذا الأخير الذي تساهل مع جيش بلونيس حين نزوحه إلى المناطق التي يشرف عليها لعدة أسباب من أهمها أن لم يتلق أوامر بطرده أو قتاله من مسؤوله المباشر مصطفى بن بولعيد، والأمر الثاني الذي جعل زيان مرنا في تعامله مع بلونيس هو شخصية زيان عاشور التي طبعها الجانب الديني حيث يقول عنه إيف كورير بأنه مرابط (01) ولا يؤمن إلا بالجهاد وبالتالي فليس هناك من يكشف عن تعامله مع العدو آنذاك (سنة1956) يضاف إلى كل ذلك ادعاءات بلونيس بأنه مطارد من طرف القبائل لأنه عربي، وهو ما استعطف زيان عاشور (11)• وبقي هذا الأمر إلى غاية اللقاء الذي جمع زيان عاشور بمصطفى بن بولعيد في 32 مارس 1956 بالجبل الأزرق حيث أصدر قائد الولاية تعليماته بطرد بلونيس (21) من المنطقة بعد أن تناهى إلى علمه قيامه بأعمال تتنافى والثورة وبالتالي سدت منطقة شمال الولاية السادسة في وجه حركة بلونيس وأصبح توغله فيها لا يخلو من المخاطر ولكن انسحابه لم يكن إلا مؤقتا إذ زرع خلايا نائمة في وسط جيش زيان لتستيقط فيما بعد وتكون لها آثار تدميرية على جيش التحرير وسنعود إليها لاحقا •
اشتد الخناق على حركة بلونيس، فإذا كان عمر إدريس والحواس طرداه من تخوم الولاية السادسة، فإن الولاية الثانية والرابعة قامتا بسلسلة من الهجمات بقيادة سي مراد بمنطقة جتضزا ولخضر التباطلاي بمنطقة البويرة وعميروش والنقيب أعراب بالولاية الثالثة ليجد بلونيس نفسه مطوقا في منطقة بني يلمان وتضاءل عدد جنوده إلى 100 فرد في حين تقدرها مصادر أخرى بـ 50 فقط
هذا الوضع الذي آلت إليه فلول بلونيس لم يكن غائبا عن أعين الاستخبارات الفرنسية بل كانت على علم بجميع التطورات وأحيانا ساهمت إلى حد كبير في إحداث المواجهة بين الطرفين (أي الجبهة وحركة بلونيس) وضعف الحركة البلونيسية كان واضحا لديها ففي هذا يقول النقيب جدزءح (منتدب فيما بعد عند بلونيس عند انضمامه) في تقرير عن وضعية بلونيس بداية 57 وبعد الهجوم الذي قاده جيش التحرير ضده (••• إن خطوط الاستعلامات والاتصالات وشبكات التموين تم القضاء عليها الواحدة تلو الأخرى في إطار مخطط محكم•••) ومقابل انحسار هاته الحركة فإن نفوذ جبهة التحرير بدأ يتوسع شيئا فشيئا سياسيا وعسكريا وبسيكولوجيا، وبالتالي ليس من صالح الاستعمار الفرنسي القضاء على حركة مناوئة لجيش التحرير الذي يعتبر العدو المشترك لهما فضلا عن كونها تروج بأن الصراع بين العرب والقبائل وهو ما يلتقي مع أطروحاتها في الحرب البسيكولوجية إضافة إلى تمركز هذه الحركة المناوئة في المنطقة الجغرافية الفاصلة بين العرب والقبائل •
أدرك بلونيس وجنوده بأن النهاية وشيكة ولا ملاذ له إلا الانضمام للجيش الفرنسي أو الاستسلام لجيش التحرير، فاختار الأولى حيث كانت لبلونيس علاقات خاصة مع بعض الفرنسييين من أصل أوروبي مدنيين وعسكريين •
ففي جانفي 1957، اتصل بالمتصرف الإداري لعين بوسيف الذي أعلن استعداده ليكون وسيطا بين الطرفين ثم دخل الوساطة معلم يدعى بيارو هو الذي لفت انتباه لاكوسط إذ فوض للمسؤول العسكري بالمنطقة ششحد الاشراف على العملية وفعلا تم أول لقاء بين ضابطين من مساعدي بلونيس وهما القصراوي وسي سعدي (51) وممثل عن النقيب كومبيط •
وفي يوم 19 أفريل جرى لقاء آخر بين الضابط الفرنسي بينو وبلونيس وتحدد اللقاء بعد أسبوع يوم 19 أفريل 1957 وبموجب مراسلة من بلونيس إلى قائد قطاع ملوزة وبني يلمان بتاريخ 24 أفريل تم الاتفاق على أن يكون هناك لقاء بين الطرفين يوم 31 ماي بمشتي قصبة (بني يلمان) وهو ما وقع فعلا ونعود إليه فيما بعد• أهم ما ميز هاته الاتصالات المتتالية والكثيفة في الفصل الأول من عام جانفي 1957 السرية التامة حتى داخل حركة بلونيس إذ لم يكن يعلم بها إلا 5 من معاونيه وحتى بالنسبة للجانب الفرنسي فقط كانت تعليمات لاكوسط تؤكد على الطابع السري للقــاءات، والتي لا يزال محــتواها الكامل وإلى غــاية اليوم في طــي المجــهول سـوى طــلب بلونيس من الجانب الفرنسي تزويده بالسلاح، لكن الوضعية التي كان عليها جيش بلونيس ولو توفرت له الأسلحة آنذاك فليس له التعداد البشري الذي يمكنه من أداء الوظيفة المكلف بها من طرف الفرنسيين بحكم شساعة الرقعة التي سيشرف عليها فضلا عن صد قوات جيش التحرير منها ومطاردتها، وهو الأمر الذي استطاع أن يجنيه بعد أحداث بني يلمان كما سيأتي •
يتبع>>>>>>